د. علوي عمر بن فريد يكتب:
أصبحت غريبا في وطني !!!
عندما كنا صغاراً كنا نرى أن الغربة هي مغادرة الشخص لأرض الوطن بجسده وبقاء روحه معلقة فيه ولكن عندما كبرنا أدركنا أن للغربة مفهوماً آخر أشدُّ قسوة وضراوة من المفهوم الذي كان عالقاً في أذهاننا !!
عندما كنّا صغاراً ويا ليتنا لم نكبر حتى لا ندرك بعض المفاهيم على حقيقتها، أوليس الغربة في الوطن أشد قسوة من الغربة التي تتعدى جدرانه وحدوده الجغرافية ؟!!
في وطني سمعنا عن قصص المغتربين ومغادرة أوطانهم عنوةً أو بحثاً عن حياةٍ أكثر رخاءً، لكننا لم نسمع بمن يعيشوا في أوطانهم غرباء!!
كبرنا وآخر ما توقعناه بأن نكون من هؤلاء ونعيش غرباء في الوطن الذي فيه نشأنا وكانت فيه أجمل ذكرياتنا!!
هذا آخر ما كنا نتوقعه بأن نحيا غرباء بين الأهل والخلان، تماماً حالنا أصبح كالذي يعيش جسداً بلا روحٍ في الوطن أو روحاً بلا جسدٍ، وما أقسى أن تحيى هذه الحياة، وأنت في وطنك غريبا ولا تحصل على أدنى حقوقك، ما أقسى أن يُمارس الظلم عليك في وطنك فتهضم حقوقك فيه وممن ؟؟ من دخلاء وغرباء دخلوه عنوة !ّ!
ولا تستطيع بأن تدفع الظلم عنك منهم ، وما أقسى أن تعيش فيه بلا مأوى ولا زادٍ وبلا كرامة وبلا أدنى مقومات الحياة الكريمة!!!
أخبرني رجل في الثمانين من العمر سيباني النسب رجل أعمال وتجارة في المملكة العربية السعودية وأفريقيا و ماليزيا قال هممت إن أستثمر في حضرموت قبل 20 سنة تقريبا فذهبت إلى هيئة الاستثمار وطرحت المشروع المزمع
إقامته وكان في مجال الأسمنت فأخبرني مدير هذه الهيئة بأنه لا بد أن تذهب إلى صنعاء حتى تأتي بموافقة مجلس الوزراء!!
المهم ذهبت حتى وصلت إلى رئيس الجمهورية الهالك علي عبدالله صالح و دفعت أموالا طائلة حتى أعطوني تلك الموافقة فرجعت إلى المكلا بعد ما حددت لي هيئة الأستثمار الأرض .
والتي كانت بعيدة عن المدينة وعن المعسكرات فبدأت العمل في إنشاء ذلك المشروع ومعي أربعه أجانب وفي أحد الأيام فوجئنا بطقم عسكري مرسل إلينا من المنطقة العسكرية الثانية يأمرنا بإيقاف العمل فأخبرته بأن إجراءاتي سليمة ولدي موافقة من الحكومة فقال : (ماباللا ) القائد يريدك أن تأتي إلى القيادة وتأتي بالأجانب معك ...!!
فذهبنا في اليوم الثاني إليه فأخذ قائد المنطقة العسكرية الثانية وكان يدعى محمد علي محسن الأحمر يسألني عدة أسئلة اختتمها بالقول :
أذا( تشتي) مشروعك يقام لابد أن تدخلني شريك معك بالثلت وأن تدفع لي ثمانين ألف دولار شهريا!!.
فقلت له لماذا ؟؟ وكل إجراءاتي سليمة ؟؟!!
قال : مقابل حمايتك فقلت له ممن ستحميني وأنا في أرضي ؟؟
فقال إذا لم يعجبك شرطي فلا تحلم أن ينجز مشروعك ..فقلت لا يوجد لي خيار إلا أن أترك المشروع واذهب لأفريقيا لإقامة المشروع هناك ..!!
وأنا راكب في الطائرة كنت أبكى فسألني الأجنبي: ما الذي يبكيك ؟؟
فقلت له : في بلادي وأرضي ولا أقدر أن أستثمر فيها بل ويأتي هذا الغريب ويتحكم فيها ؟؟!! فقال الأجنبي (عندما تتفرقون يأتي من يستعبدكم في أرضكم) !!
فكانت كلماته كالصاعقة نزلت على رأسي !!!
قلت له : إن أشد ما يؤلمني هو شعوري بأنني غريب في بلدي ... فحينما تسافر إلى عدن برا من الريف ثم تعد النقاط العسكرية التي تحول بينك وبينها والاستجواب عند كل نقطة : (من أين جئت ؟؟ والى أين تذهب ؟؟!!)
تشعر كأنك غريب في بلدك والأدهى من ذلك عندما تستوقفك بعض النقاط لساعات وكأنك من بعض أغنامهم حتى داخل عدن ... بينما يمر مواطنو الدرجة الأولى من المسئولين الجدد من الجانب الأيمن ترافقهم الطقوم العسكرية والعساكر المدججين بالسلاح وتنحني لهم الرؤوس وتؤدى لهم التحيات !!
وحين تنظر حولك فتجد من أثرى ثراء فاحشا بسرعة الضوء مع معرفتك بالكيفية التي كان يعيش بها قبل أن يصبح مسئولا, وحين ترى أموال بلدك تنهب وتبعثر في الولائم والمؤتمرات وشراء الذمم وتأليف القلوب, وحين ترى طفلة جائعة أو يتيما بلا مأوى يتسول في الشوارع أو أرملة فقدت زوجها في معارك الوطن المزعومة فأضحت هدفا للرياح السوداء والصفراء ,حينذاك ستصرخ بأعلى صوتك أيها الوطن أطلق على نفسك كل الأسماء ولكن لا تطلق على نفسك اسم (الوطن ) لان الوطن الذي لا يوفر الخبز والكرامة ليس وطنا!!
الغربة في الوطن سابقا لم تكن موجودة ،واليوم نعاني أشدَّ أنواع الغربة تلك الغربة التي تشعر فيها وأنت في وطنك. إن العلمَ في الغربةِ وطن، الفقرُ في الوطن غربةٌ، والغنى في الغربة وطن. الغربة ليست فقط في البعد عن الوطن، الغربة هي عندما تستيقظ صباحاً ولا تجد أحداً تبتسم له. أحياناً قد لا تكون الغربة في طلب الغنى المادي، فثمة غربة في سبيل الغنى المعنوي. في الغربة ستشعر بالوجع والألم الذي لن تشعر به لو كنتَ تعيش في ربوع وطنك، وإذا أُصبتَ بوعكةٍ صحيةٍ في الغربة مهما كانت خفيفةً ستشعر عندئذٍ بأنها مرضٌ خطير وأوّل ما سيتبادر إلى ذهنك الوطن وسيأخذك الحنين إليه بكلِّ لهفةٍ وشوقٍ، وفي الغربة تختلف الشهور عمّا كانت عليه في الوطن، وتنقلب الأيام ، فتصبح الثواني ساعات، والساعات سنوات، والسنوات عقوداً ودهوراً!!
وتتمنّى أن تمضي بك الأيام مسرعة لتعود إليه وترتوي من أحضانه وتلامس جدرانه، وكم هي الدعوات التي كنتَ تدعو الله عزّوجل بألا يقبض روحك في الغربة، وربما كتبتَ وصيةً إذا أخذ الله عز وجل روحك في الغربة أن يدفنوا جسدك النحيل في ثرى الوطن الذي احتواك صغيراً
ولكن ماذا يعني أن تكون غريباً في وطنك؟ وهل سمعت بمن يعيش داخل وطنه وبين أهله مغترباً؟
وإذا انتشر الفقر ، فإن المجتمع بأسره ستتفشّى فيه الرذيلة وتقل فيه الأمانة وينعدم فيه الأمان، وعندما تشعر بأنك لا تستطيع أن تأمن على نفسك ولا تشعر بالانتماء لجدران وطنك التي كنتَ تتوكأ عليها و ستدرك أنك تعيش غريباً في وطنك
وإذا وجدت لصوص الليل والنهار ينهبون ثرواتك، ويسلبون حقوقك، ويبيعون قوتك، ويتاجرون بإنسانيتك، ويسرقون ثروات وطنك، ثم يطلبون منك أن تكون وطنياً خالصاً ومخلصاً لوطنك فأعلم أنك تعيش غريباً في وطنك!!
وماذا يعني بأن تعطي وطنك كل ما تملك ولا تحصل على أدنى حقوقك ؟!!
هذا يعني أنك غريب فيه!!
يا لصوص الليل ماذا أبقيتم لنا من الوطن؟ حتى نشعر ولو للحظة بأننا لا نعيش غرباءً في أوطاننا وأوساط أهالينا، سنبقى محبين لأوطاننا لأن محبتنا لها نابعةٌ من الإيمان الراسخ، وأنتم ستبقون ما بقيتْ الحياة أعداءً لنا يا من جعلتمونا نشعر بالغربة والوحدة في أوطاننا!!
د. علوي عمر بن فريد