د. عيدروس النقيب يكتب:

لنعترف بالمشكلة كما هي ( مقترح جديد لحل الإزمة في اليمن)

كل المشاورات والمناورات والمغامرات والمقامرات والتصريحات والتلميحات والاتفاقات والخطابات المتعلقة بالقضية في اليمن تحوم حول قشرة المشكلة وسطحها الظاهر ولكن أصحابها يتهربون من الغوص في عمق المشكلة ومسبباتها وتعقيداتها، لأنهم في هذه الحالة سيقفون أمام استحقاقات ليسوا جاهزين للإيفاء بها وربما لا يرغبون فيها.
وتجنباً للإطالة فإنه يمكن تركيز عناصر المشكلة في التالي:
• هناك سلطة (شرعية) يفترض أن تحكم عشرين مليون مواطن شمالي يرأسها رئيس جنوبي، جاء التوافق عليه لغرضين: إغاضة الرئيس السابق (قبل اغتياله) وترضية الجنوبيين وإشعارهم بأنهم صاروا من يحكم اليمن، بعد أن ارتفع الصوت الجنوبي رافضا للألغاء والتهميش وللسياسات الاحتلالية التي مورست عليه منذ حرب 1994م.
• الغالبية الشمالية تقبلت الأمر على مضض، لكنها لم تنتظر سوى سنتين، حتى جاء تحالف الرئيس السابق مع زعيم الحوثيين لتنحاز إلى هذا التحالف، وصمتت النخبة السياسية الشمالية بعد أن جرى احتجاز الرئيس (الجنوبي) الشرعي المنتحب، بل وسافر البعض إلى مران لمقابلة (سيد الحوثيين) والاتفاق معه.
• عندما وصلت قوات التحالف الانقلابي إلى محافظات الجنوب هب الشعب الجنوبي للتصدي للغزو وتمكن بدعم ومساندة الأشقاء في دول التحالف، من تحرير أرضه في أقل من مائة يوم، بينما تأقلمت أطياف المجتمع الشمالي مع الوضع الجديد متحملةً السياسات الحمقاء للحوثيين ونتائج الإجراءات العقابية المفروضة على قادة الانقلاب، ومنها الغارات الجوية على معسكرات الجيش ومخازن الآسلحة وما تثيره من رعب وتبعات جانبية.
• الذين التحقوا بالرئيس الشرعي (الجنوبي) من النخبة السياسية الشمالية، وحتى الجنوبية، متعددو المشارب بعضهم كان جزءً من الانقلاب ووقف يصفق لمقولة (المنفذ الواحد) وبعضهم قابل عبد الملك واتفق معه على “طي صفحة الماضي”، وبالتالي فإنهم لا علاقة لهم بالشرعية غير إنهم مؤيدين لها فقط (على افتراض أن تأييدهم هذا حقيقي ونقي وصادق وبعيد عن الأغراض الانتهازية السياسية والحزبية والمصالح المادية) أما عامة الشعب في الشمال فقد وجد نفسه بين مطرقة الانقلابيين السيئة وسندان الشرعيين الذي لا يقل عن هذه المطرقة سوءً.
• قدم التحالف العربي للمقاومة الشمالية وجيشها (الوطني) دعما أكثر سخاءً بعشرات المرات مما قدمه للجنوبيين، لكن هذا الدعم لم يسفر عن نتيحة ملموسة بعد أن كان القادة يقولون أن صنعاء في مرمى مدفعيتهم، بل وجرى مؤخرا تسليم محافظة الجوف وعدد من المعسكرات والمواقع الاستراتيجية والمديريات المهمة لقوات الحوثي، وذهب كل ما قدمه التحالف العربي إما غنيمة بيد الحوثيين أو أرصدة بنكية في حسابات القادة الشرعيين.
• وهكذا تبلورت لدينا خارطة سياسية تتضمن المعطيات التالية:
1. جنوب متحرر من الغزو الانقلابي تم تسليمه للرئيس الشرعي بعد أن حرره أبناؤه لكن النافذين (الشرعيين) لم يدعوا الرئيس يمارس عمله في عدن بل فضلوا حياة الفنادق والاستضافة طويلة الأمد، بينما يتطلع الجنوبيون إلى إدارة جنوبهم بعد أن حرروه بدمائهم وأرواح أبنائهم.
2. شمال بيد مجموعة من أبنائه أخذوا السلطة عن طريق الانقلاب، وما أكثر الانقلابات في تاريخ الشمال، منذ انقلاب الإرياني على السلال والحمدي على الإرياني والغشمي وعلي عبد الله صالح على الحمدي، وما يميز الانقلاب الأخير هو أن القائمين عليه يدّعون أنهم ورثة رسول الله ولا حق لأحد أن يوقفهم أو يرفض منكراتهم أو تبنيهم لأجندة خارجية تمثل مشروع الثورة الخمينية الممقوتة حتى من أهل بلادها.
• يرى الكثير من المحللين السياسيين، إنه لو كان الرئيس الذي جاء بعد علي عبد الله صالح شمالياً لما حلت باليمن كل هذه الويلات، وأن الرئيس (الجنوبي) هادي وقع ضحية عوامل عدة، أولها أنه جنوبي بلا رديف شعبي قوي في الشمال، الثاني أن من جاءوا به إلى الحكم لم يكونوا مستعدين للدفاع عنه، وقد تخلوا عنه عند أول امتحان، كما إن الملتفين حوله لا يقلون سوءً عن الانقلابيين الحوثيين، والثالث أن المزاج الشعبي وحتى الوعي النخبوي السياسي الشمالي الذي لم يقبل برئيس ما دون نقيل يسلح لا يمكن أن يقبل برئيس جنوبي، “وتلك هي شفرة المسألة”، ومن هنا فإن مقولة عودة الرئيس الشرعي إلى صنعاء وتحرير صنعاء من أهلها الذين فضلوا الحوثي (الشمالي) على الرئيس الشرعي (الجنوبي) هي مقولة غير منطقية، ومستحيلة التحقق، فلا القائلين بها مستعدون لتحقيقها ولا الشعب في الشمال يقبل بالتفريط بزعيمه الشمالي من أجل أن يحكمه رئيس جنوبي خرج مغدوراً به مسكوتاً على كل ما لحق به من أذى وإساءة وإهانة.
• النخبة السياسية الشمالية المهاجرة مع الرئيس الشرعي (الجنوبي) هادي ليست لها شعبية ولا قاعدة جماهيرية سوى أعضاء أحزابها الذين يتضاءلون يوميا بعد فشلها في التعبير عن تطلعاتهم.
وللخروج من هذه الوضعية السريالية البارادوكسية الشائكة، فإنه من الحكمة أن يتم حل عقدة الأمر وجذر المشكلة الأساسي من خلال مجموعة من الإجراءات والتوافقات التدريجية يمكن تنفيذها من خلال الآتي:
1. تشكيل إدارة حكم ذاتي لإقليم الجنوب (تحت قيادة الرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي) يختارها الجنوبيون بالتوافق بعيدا عن التدخل من أحد ما عدا إشراف الأشقاء في التحالف العربي والجامعة العربية ومنظمة الأمم المتحدة، حتى تتهيأ الفرصة لأجراء انتخابات تنافسية ديمقراطية في الجنوب وحل مشكلة فض الشراكة مع الأشقاء في الشمال.
2. توحيد جميع القوى الأمنية الجنوبية تحت قيادة وزارة الداخلية الجنوبية والحكومة الجنوبية التي تعمل تحت قيادة الرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي.
3. تشكيل حكومة إقليمية للشمال (تحت قيادة الرئيس الشرعي) يمكن أن تمارس عملها في مأرب أو تعز أو حتى من محافظة جنوبية، تتولى إدارة ملف التفاوض مع الجماعة الحوثية والتصدي لأعمالها العدوانية التي ما انفكت ترتكبها ضد أبناء المناطق الرافضة للانصياع لها.
4. دعوة الجماعة الحوثية إلى طاولة حوار في دولة شقيقة أو صديقة للاتفاق على صيغة توافقية لإنها الحرب وصوغ منظومة مؤقتة لإدارة الحكم في الشمال عن طريق التوافق بين القوى السياسية الشمالية الفاعلة حتى التهيئة لانتخابات تنافسية تفضي إلى قيام برلمان شرعي وحكومة شرعية (فعلاً) تحترم جيرانها وتتعايش مع المحيط الإقليمي والدولي وتمثل كل أطياف المجتمع الشمالي بلا استثناء.
5. هذا الأمر سيقتضي على الجماعة الحوثية أن تتخلى عن النهج العسكري المليشياوي، وأن تتبنى قيام حزب سياسي مدني يؤمن بالديمقراطية والتعددية وينبذ فكرة التميز والاصطفاء الإلهي ووراثة بيت رسول الله، التي صارت موضع سخرية العقلاء وغير العقلاء.
6. دمج كل القوات العسكرية في الشمال وإخضاعها لقيادة عسكرية مهنية غير حزبية تتبع الرئيس الشرعي وتمثل كل مناطق وقبائل الشمال، ولا تتبنى أية أجندة سياسية أو حزبية أو مذهبية أو مناطقية.
7. عقد مؤتمر حوار شمالي ـ جنوبي برعاية دولية وإقليمية لتحديد طريقة فض الشراكة بين الشمال والجنوب والعودة إلى نظام الدولتين وتحديد معايير وضوابط العلاقة بين الدولتين الشقيقتين بتراضي ممثلي الطرفين ودراسة الشراكات المتكافئة الممكنة بين الشعبين بما في ذلك إمكانية إقامة كونفدرالية تتضمن مجالات محددة للتعاون والتنسيق بينهما.
8. يتم إنشاء صندوق لإعادة إعمار أراضي الدولتين اليمنيتين بإشراف إقليمي ودولي ومساهمة من دول المحيط الإقليمي بما في ذلك إيران ومشاركة المنظمات الدولية، لغرض إعادة البنية التحتية التي تعرضت للتدمير سواء بسبب سوء الإدارة والسياسات الانتقامية أو بسبب الحرب وتداعياتها وفتح الأبوب لقيام تنمية اقتصادية واجتماعية في البلدين تسمح بخلق حالة من الأمان المعيشي والاستقرار السياسي والأمني في المنطقة والإقليم وتوفر الخدمات الضرورية للسكان.
إن الرهان على تجزئة القضية الإشكالية الأساسية إلى قطع وتفصيلات صغيرة وعقد اتفاقات صغيرة جزئية أو ترقيعية إنما يزيد الوضع تعقيدا ويخلق المزيد من التحديات المكتاعب ليس لليمنيين (في الجنوب والشمال) وحدهم وإنما للجوار الإقليمي والمجتمع الدولي، وما اتفاقي ستوكهولم والرياض إلا نموذجين حيين لأي صفقات جزئية يمكن التفكير بعقدها كمعالجات موضعية لمعضلة ليست موضعية.
والله من وزراء القصد