بهاء العوام يكتب:

الوساطة الغائبة في أزمة سد النهضة

بمنطق الضرورة ودون أي أبعاد سياسية، يتحتم على مصر حماية أمنها القومي من خطر يتربص بمياه نهر النيل الذي يشكل عماد الحياة فيها. والخطر هنا لا يتمثل بكارثة طبيعية محتملة ولا باعتداء مباشر على مياه النهر، وإنما بمحاولة دولة المنبع الاستفادة من النيل على نحو يضر بدولة المصب.

لا ينكر المصريون على الإثيوبيين حق الاستفادة من مياه النيل، ولكن في الحدود التي لا تعطشهم. وبالتالي تنحصر المشكلة في قواعد ملء وتشغيل السد، وليس في بنائه. هذا هو التعريف الواقعي للأزمة دون زيادة أو نقصان. عليه بنيت مفاوضات السد، ومن خلاله يمكن توقع نتائج فشلها في نهاية المطاف.

ما الخيارات التي قد تلجأ لها القاهرة إذا ما فشلت فعلا مفاوضات سد النهضة؟ كيف يمكن لها حماية حياة وقوت عشرات الملايين من المصريين، وخاصة إذا ما شهد مجرى النيل موسم جفاف قلص من تدفقه، خلال ملء أديس أبابا لبحيرة السد دون مراعاة الحدود الدنيا من حاجة شعب دولة المصب. 

على الضفة الأخرى تعول أديس أبابا كثيرا على سد النهضة الجديد بمياهه وطاقته ومشاريعه. كثيرون جدا في إثيوبيا يحلمون بوصول الكهرباء إلى منازلهم بعد إنجاز السد. وكثيرون أيضا يحلمون بنقلة نوعية في اقتصاد مناطقهم بواسطة الكهرباء التي ستنتج عبر واحد من أكبر اثني عشر سدا حول العالم. 

الموت من العطش في مصر، أو الموت من الفقر والظلام في إثيوبيا. هذه المعادلة المستحيلة للمفاوضات المارثونية بين مصر والسودان وإثيوبيا. وهي لن تحل إلا بدعم القوى الكبرى والدول الصديقة للقاهرة والخرطوم وأديس أبابا. هذا الدعم إما أن يكون بإعانة إثيوبيا اقتصاديا، أو بمساعدة مصر مائيا.

في الخيار الأول نحتاج إلى مبادرة من الاتحاد الأوروبي، أو الولايات المتحدة، أو الصين، تتمثل بدعم أديس أبابا بجملة من المشاريع التي يمكن أن تخفف على الإثيوبيين من وطأة انتظار ملء بحيرة سد النهضة، خلال مدة تزيد على عشر سنوات. وهو الوقت الكافي لبناء السد دون تضرر المصريين، كما يقدر الخبراء. 

في الخيار الثاني يجب أن تتوفر لدى مصر موارد مائية تعوض النقص الذي سيخلفه ملء بحيرة سد النهضة على امتداد سبع سنوات كما يتطلع الإثيوبيون. ثمة تقارير تتوقع وجود مياه جوفية في مناطق النوبة وغيرها في مصر، قد تشكل خزانا جيدا للشرب والزراعة، ولكن الأمر يحتاج لأكثر من التوقعات.

الاستفادة من المياه الجوفية إن ثبت وجودها هو خيار.

الموت من العطش في مصر أو الموت من الفقر والظلام في إثيوبيا هذه المعادلة المستحيلة للمفاوضات المارثونية بين مصر والسودان وإثيوبيا وهي لن تحل إلا بدعم القوى الكبرى والدول الصديقة

وهناك أيضا الاستعانة بمحطات تحلية كثيرة لمياه البحر المتوسط. كلاهما قد يساعد المصريين في تجاوز أزمة السد بأقل الخسائر. ولكن كليهما يحتاج إلى أموال واستثمارات أجنبية يمكن للأقطاب الكبرى حول العالم المساهمة فيها أو تبنيها. 

قد تتوفر لدى أصحاب الخبرة والاختصاص خيارات أخرى أكثر جدوى في الدولتين. ولكن أيا كانت الحلول المقترحة فهي تحتاج لدعم ومؤازرة كبيرين من المجتمع الدولي، وبخاصة القوى العالمية. أما ترك الأمر لمفاوضات عقيمة تراوح مكانها منذ أشهر فهذا تحريض مباشر على الصدام بين الدولتين.

المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية طرح ورقة بحثية لحل مشكلة السد بعنوان “صراع النيل: التعويض بدلا من الوساطة”. قد تحتاج آلية التعويض التي يطرحها المعهد إلى بعض التعديل لتنسجم مع ظروف مصر وإثيوبيا. ولكن أيا كان الشكل النهائي لها فهو يحتاج إلى دعم أوروبي وعالمي مالي.

حتى الآن يعزف الاتحاد الأوروبي عن لعب دور مفصلي في مفاوضات سد النهضة. أو لنقل لا يضع المشكلة على قائمة أولوياته. ربما لو اندلعت الحرب بين مصر وإثيوبيا لأصبح الأوروبيون أكثر حماسة. وأدركوا حينها أن اضطراب القارة السمراء سينعكس على كل القارات الأخرى دون استثناء.

قد يكون التأخر الأوروبي عن التدخل الجدي في مشكلة السد سببه التراخي الأميركي والصيني في حل المشكلة. يبدو أن واشنطن وبكين تفضلان ملء السد بأسرع وقت ممكن لأنهما استثمرتا كثيرا فيه. ولا نبالغ بالقول إن الوساطة الأميركية الفاشلة في المفاوضات قبل أشهر زادت من صعوبة الحل.

يدرك الجميع أن مرور الوقت في مفاوضات سد النهضة يصب في صالح الإثيوبيين. وقد مارست أديس أبابا لعبة كسب الوقت بشكل جيد جداً حتى الآن. تمضي في كل وساطة لحل الأزمة حتى النهاية ومن ثم تعيد الجميع إلى مربع الصفر. تستنزف الوقت وعندما يحين استحقاق الاتفاق تنسحب.

لقد طرق المصريون جميع الأبواب الأممية والأفريقية والأميركية من أجل حل أزمة السد. وبات جليا أن الأزمة تحتاج إلى وساطة تتجاوز توفير قاعة للتفاوض أو نافذة افتراضية لحوار المتخاصمين. أصبح الأمر يتطلب وساطة تجمع أمرين أساسيين، إدراك خطورة الموقف، والقدرة على تبني الحلول.

الوساطة المنشودة في أزمة سد النهضة لا تزال غائبة حتى اليوم. واستمرار غيابها هو ما يطيل أمد الخلاف ويزيد من احتمالات تفجره عاجلاً أو آجلاً. لا يجنح المصريون إلى الحلول الصعبة في الأزمة. هم يتمسكون بالتفاوض، ولكن حينما يموت الحوار بين الدول تحيا على أنقاضه خيارات أخرى لا مفر منها.