د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):

عدن وحديث الذكريات وأيام الزمن الجميل (3)

خرجنا من قهوة "زكو" وسرنا في شارع السوق الطويل الذي تنتشر فيه محلات الأزياء الرجالية والنسائية – الأقمشة – الخردوات – الحقائب – وأخذنا نتنقل من رصيف إلى آخر حسب جاذبية وعرض البضاعة التي يعرضها كل محل .. ندخل ونسأل عن الأسعار ثم نخرج وكان أحمد الأكبر سنا مني وهو من كان يتولى السؤال وهو شديد الجرأة ويمتاز بالشجاعة والكرم وطيبة النفس أما أنا فقد كنت أتردد في السؤال ولولا مرافقته لي لما تجرأت وسألت مثلهَ!! .

كانت توجد في السوق الطويل بعض المحلات الراقية وأسعارها محدودة ومعروفة.. اشتريت من عند أحد الباعة قميص (فان هاوزن ).. جميل جدا بمبلغ 45 شلن... وهو من الماركات الراقية جدا، و اشتريت قميصا آخر(ريل بروك ) وكلها صناعة بريطانية بنفس السعر!!!.

أما قماش البنطلونات الرجالي يوجد الموهير الإنجليزي..والترجال الفرنسي وأنواع عديدة أخرى من الأصواف والأقمشة ذات الجودة العالية والألوان الرائعة ..وتباع بالمتر وكنا نذهب لتفصيل البنطلونات عند خياطين هنود وهم بارعون في مهنتهم ولا يتعدى سعر التفصيل 25-30 شلنا!! .

ونظرا لاهتمامي بالأناقة والملابس الرجالية في تلك السن المبكرة .. أذكر أثناء زيارتي لعدن في إحدى المرات حيث كانت أسواق عدن حافلة بشتى أنواع الملابس..من أوربا وآسيا.. محلات تبيع القمصان والبنطلونات والبدل من انجلترا ..والفوط من الهند وجاوه بجميع أشكالها وماركاتها.. و يتلاعب بعض التجار بالأسعار خاصة محلات التجزئة ..كما حدث معي في إحدى زياراتي لأسواق مسجد النور في الشيخ عثمان..عندما كنت أتجول بعد المغرب في تلك المحلات..

وإذا كان الشيئي بالشيء يذكر فلا أنسى براعة الباعة اليمنيين وخاصة أهل تعز ونواحيها الذين يسيطرون آنذاك على معظم تجارة الملبوسات في عدن ويمتازون بالذكاء وفن البيع والشطارة والبراعة وقوة الإقناع للزبائن وأغلب زبائنهم من السذج والبسطاء القادمين من الأرياف ..وقد حذروني من مكرهم وقد دخلت ذات مرة بمفردي إلى محل ملبوسات رجالية ولفت انتباهي فوطة سمرنده معروضة في صدر المحل وأعجبتني ورغبت في شرائها وبقيت كلمات بعض الأصدقاء ترن في أذني عندما حذروني من عمليات الاحتيال والاستدراج للزبائن وبيع البضاعة بأسعار غالية ومعظمهم من تعز والحجرية ويمتازون بالدهاء وطول النفس والصبر فبدأت أساوم البائع من مائة شلن وأخذ ورد وطلوع ونزول وفي الأخير عرضها علي بعشرة شلن فخرجت ووليت هاربا حتى لا يعطيني الفوطة بالمجان

أما أفخر أنواع المعاوز الشهيرة المسماة " السعيدوني " التي تحاك في لحج من الخيوط الحريرية المستوردة من اليابان لا يشتريها إلا الأثرياء والوزراء أو محبي الأناقة . أما الفوط الشعبية 80 في 80 الهندية فهي الأرخص سعرا إذ لا يتجاوز سعرها 14 شلن فقط!!... أعود إلى جولتنا أنا وابن خالي أحمد عبد الله وأقول:

أخذنا نتجول في الأسواق المتفرعة من السوق الطويل وهي:

سوق البهرة – سوق الاتحاد – سوق البز – سوق الطعام – وكان العديد من التجار من أبناء العوالق و الواحدي في هذه الأسواق ولهم محلات تجارية تبيع عدة سلع ومنهم:

من الصعيد " الشيخ أحمد بن أبو بكر بانافع" الشيخ صالح ثعلب من نصاب، الشيخ صالح الشقاع، والشيخ محمد على ذيبان، وحسين علي عليوه من حبان وغيرهم...

وقد ذكر الأستاذ نجيب يابلي في حوار مع الشقاع ما يلي:

حدثني الشيخ صالح الشقاع عن ذكرياته مع بلدية عدن في عصرها الذهبي.. عندما طلب منه ذات يوم المستر جن مسئول في بلدية عدن بعض المنتجات الشعبية والمشغولات اليدوية من حبان التي تصنعها النساء في البيوت كهدية منه، وأرسل الشيخ الشقاع إلى حبان يطلب من أسرته تجهيز الهدية وإرسالها على وجه السرعة وعند ما سلم الشقاع الهدية لصديقه الإنجليزي الموظف في البلدية وشكره الأخير عليها ثم سأله عن أي خدمه مطلوبة منه ردا للجميل فقال الشقاع:

- نباكم ترحلوا من بلادنا .. نطلب الاستقلال !!؟

فرد عليه المستر جن بالقول:- نحن راحلون .. راحلون .. لكنكم ستبكون!!

ثم قال الشيخ الشقاع: نعم.. رحلوا .. وطال بكاؤنا حتى اليوم..!!

وهنا اخترت لكم مطلع من قصيد ة للشيخ محمد بن سالم البيحاني صديق الشيخ صالح الشقاع يصف فيها البيحاني عدن ويقول:

أحن إليك يا بلد المعالي ومالي لا أحن وألف مالي

أحن إليك والأنفاس حرى ونار الحب تطفى بالوصال

وأسأل عنك زواري جميعا وما يشفي الجواب من السؤال

وفي عدن العزيزة كل شيء يعز علي من أهلي ومالي

ولو إني سكنت من الثريا لقلت إليك يا عدن مآلي

والى اللقاء في الحلقة الرابعة

د.علوي عمر بن فريد