سالم الكتبي يكتب:
اختراق إماراتي للواقع الإقليمي المأزوم
ليس سراً أن القضية الفلسطينية تقف في مفترق طرق تاريخي صعب، وباتت تواجه مصيراً مجهولاً منذ أشهر مضت، خصوصاً بعد إغلاق كل قنوات التواصل الفلسطينية مع الجانبين الإسرائيلي والأميركي منذ الإعلان الإسرائيلي عن ضم الأراضي الفلسطينية، بحيث باتت فرص الحوار واستئناف التفاوض حول أيّ قضية من قضايا عملية السلام مسألة مستبعدة في ظل المعطيات الراهنة، وليس سراً كذلك أن هناك تفاقما وتصاعدا في مستويات معاناة الشعب الفلسطيني في الفترة الأخيرة بسبب انسداد جميع آفاق الحل السياسي، وتوقف الدعم المالي الذي تقدمه أطراف دولية عدة لمساعدة الشعب الفلسطيني، وليس سراً كذلك أن معظم الأطراف العربية والدولية الداعمة للشعب الفلسطيني وقضيته قد انشغلت بهمومها الداخلية في الآونة الأخيرة بسبب ما ترتب على تفشي جائحة كورونا من كوارث وتداعيات وكوارث اقتصادية وخسائر بشرية.
في ظل هذا الواقع الاستراتيجي المعقد الذي يواجه القضية والشعب الفلسطيني، لم يكن أمام الدبلوماسية الإماراتية الباحثة دوماً عن ترسيخ أسس الأمن والاستقرار الإقليمي وتعزيز ركائز الأمن القومي العربي والتصدي لمصادر التهديد المختلفة التي تعانيها الشعوب العربية كافة، لم يكن هناك بديل عن البحث عن اختراق نوعي لهذا الواقع، فالإمارات ليست من الدول التي تبحث عن دور، وقيادتها لا تميل إلى الضجيج والصخب السياسي والإعلامي بل تركز على ما يضمن أمن الشعوب والدول العربية ومصالحها بغض النظر عما يثيره أعداء هذه الشعوب من مغالطات ومزاعم لم تعد دوافعها ومبرراتها تخفى على أحد في عالمنا العربي.
الدبلوماسية في أحد تعريفاتها المفاهيمية تعني فن الحصول على الحقوق عن طريق التفاوض، وهي أيضاً تلك “الشعرة” الرفيعة التي يجب الحفاظ عليها مع الآخرين والحيلولة دون انقطاعها، وهذا يفسر حرص الإمارات على تفادي انقطاع الشعرة الأخيرة في مفاوضات القضية الفلسطينية، حتى لو كانت شبه جامدة أو غائبة أو مغيبة، فخطر انقطاع التواصل والحوار حول فرص التسوية هو الخطر الحقيقي الذي يهدد مستقبل الشعب الفلسطيني.
وعندما تتوصل الإمارات وإسرائيل إلى اتفاق يحفظ قنوات الاتصال مع الحكومة الإسرائيلية، التي التزمت بموجب هذا الاتفاق بوقف قرارها ضم الأراضي الفلسطينية، فإن الإمارات تتحرك بهدف دعم الشعب والقضية الفلسطينية والحفاظ على فرص الحل السياسي والسلمي وحقوق الشعب الفلسطيني التي تتعرض للضياع بسبب الإصرار على خيارات عقيمة لم تثبت جدوى أيّ منها طيلة العقود السبعة الماضية من هذا الصراع التاريخي، والتي لم يحصل الفلسطينيون خلالها على بعض حقوقهم سوى من خلال طريق المفاوضات والحوار والخطوات الاختراقية التي تمت من خلال مبادرات سياسية كبرى كانت دائماً تواجه بالتشكيك في النوايا وخلط الأوراق من جانب المتطرفين والمتشددين وتجار القضية.
الإمارات دولة عربية مؤثرة تمتلك رصيداً تاريخياً هائلاً في دعم المصالح والشعوب والقضايا العربية، ولا يمكن لها المغامرة بهذا الرصيد بحثاً عن صفقات خاسرة، فهي دولة قيم ومبادئ أصيلة لا تبحث عن دور دعائي عابر، ولكنها تسعى لترسيخ أسس الأمن والاستقرار وتعمل بنوايا صادقة وشفافية تامة مع العرب والعالم، وتوجهاتها لا تخفى على أحد، فالإمارات تعادي التطرف والإرهاب وتنظيماته، وتدعم قيم التسامح والتعايش وقبول الآخر وترى في ذلك السبيل الأمثل لضمان التنمية والأمن للشعوب كافة.
وعندما تتوصل الإمارات إلى اتفاق تاريخي مع إسرائيل فهي تتحرك لمصلحة الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة والعالم أجمع، وتضطلع بدور إطفائي في واحدة من أخطر بؤرة التوتر والصراع التي تستغلها تنظيمات الإرهاب والأنظمة الداعمة لها في نشر الفوضى والاضطرابات في منطقتنا، فهي توظف دورها وإحساسها بالمسؤولية القومية من أجل وأد احتمالات تصعيد العنف في حال تطبيق القرار الإسرائيلي بضم الأراضي الفلسطينية، وتقدم للشعب الفلسطيني وقيادته طوق إنقاذ يحفظ للجميع حقوقهم وينعش فرص التسوية السياسية للقضية ويخلق فرص جديدة لعملية السلام التي كاد قرار الضم أن يطلق عليها رصاصة الرحمة.
صحيح أن الإمارات تستثمر رصيدها وامكانياتها ومواردها السياسية في مثل هذه المواقف الصعبة، ولكنه قدر الإمارات التي تتحمل منذ عام 2011 مسؤوليات جسام في التصدي لمصادر الخطر والتهديد ونشر الفوضى في عالمنا العربي، وهي تمضي في ذلك على درب المؤسس الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، الذي اتخذ قرار دعم مصر في حرب السادس من أكتوبر عام 1973 مطلقاً مقولته الشهيرة “النفط العربي ليس أغلى من الدم العربي”، في موقف تاريخي صعب لم تكن خلاله دولة الإمارات الوليدة وقتذاك قد تجاوزت السنتين من وقت تأسيسها، ليبرهن على أن الإمارات هي عضو فاعل ومسؤول في محيطها العربي والمجتمع الدولي.
والتاريخ يؤكد للجميع أنه لا تمكن المزايدة على علاقة الإمارات بالشعب الفلسطيني ودعمها الثابت والمطلق له من أجل الحصول على حقوقه المشروعة وفي مقدمتها حقه في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. فالإمارات التي لم تغب يوماً عن مساندة الشعب الفلسطيني في محنته وقدمت له كافة أشكال الدعم في جميع مراحل قضيته العادلة، وظل وسيبقى، التزامها حياله ثابتاً ضمن أولويات سياستها الخارجية، لا يمكن لها إلا أن تتحرك في النطاق ذاته حفاظاً على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، اقتناعاً منها بأن بناء علاقات ثنائية مباشرة مع إسرائيل سيمكنها من لعب دور فاعل ومؤثر في أمن المنطقة واستقرارها بالتعاون مع الدول العربية، وتشجيع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على الحوار الجاد بحثاً عن تسوية سياسية عادلة للقضية.