عدلي صادق يكتب:
ماذا لو كان هناك "عمادي" من الإمارات
كالعادة قوبل السفير محمد العمادي، رئيس اللجنة القطرية لإعمار غزة بالحفاوة ذاتها التي ظل يلقاها في كل مرة من حكومة “حماس” على امتداد زياراته إلى قطاع غزة المحاصر. ومع مرور الوقت أصبح وصول العمادي إلى غزة بالطريقة التي يصل بها، مبشرا وإغاثيا، ومقطوع الصلة بالسؤال عن فوائد هذه الزيارات لإسرائيل، التي لا شيء مجانيا عندها.
ربما كانت مرجعيات “حماس” الإخوانية - القطرية - التركية ترى في مهمات العمادي إنجازات تحسب لصالح العمل الجهادي أو الدعوي!
لسنا معنيين هنا، بدحض أو انتقاد فكرة الترحيب بالعمادي في غزة، طالما أن الفلسطينيين هناك يحتاجون لأي إغاثة أيا كان مصدرها. وطالما أن خط كهرباء إسرائيلي يمتد إلى غزة سيكون خيرا، لكننا مضطرون للتذكير بأن لكل منظار عدستان متجاورتان، يرى الناظر من خلالهما شيئا واحدا لا ينشطر إلى شيئين، بمعني أن من تراه العدسة اليمنى محتشماً كامل اللباس، لا يكون عاريا من خلال العدسة اليسرى. ففي حال حدوث ذلك، نكون بصدد منظار مضروب على مستوييْ السياسة والبصيرة!
قبل يومين كتبت صحيفة “يديعوت أحرونوت” أن السفير العمادي أنهى لقاءاته الإسرائيلية وتوجه إلى غزة، ونقل الإعلام القطري نفسه عن قناة “ريشت كان” العبرية بأن العمادي يلتقي في كل زيارة كبار المسؤولين الإسرائيليين بينهم مئير بن شبات رئيس مجلس الأمن القومي، ويوسي كوهين رئيس الموساد ومسؤولين آخرين من دوائر أمنية مختلفة.
جاء في السياق ما يوحي بأن الزائر القطري يقوم بوساطة من الجنس نفسه الذي يقوم به الوفد الأمني المصري، وفي الوقت نفسه يحمل معه الأوراق النقدية التي سيتوجه بها إلى غزة. ثم قيل لاحقا إن الجانب الإسرائيلي استجاب جزئيا للوسيط القطري وقرر تخفيف الهجمات الجوية والعودة إلى ضخ الوقود القطري استجابة للعمادي أو تخوفا من انتشار كوفيد – 19 في غزة.
قيل بعدئذ، إن قيادة “حماس” في غزة، رفعت سقف مطالبها عن طريق العمادي وطالبت برفع الحصار أو البدء فورا في رفعه. في الحقيقة تتمسك حماس بمطالبها المحقة بحكم علاقتها بحياة السكان، مستأنسة بالموفد القطري. فالعلاقات الإسرائيلية - القطرية أسرارها وعمقها وتأثيرها الساحر، ولا نقول ذلك تبريرا لعلاقات عربية أخرى مع إسرائيل، وإنما بهدف التنويه إلى قدرة الموفد القطري على فك الأحجيات وحل العقد الفرعية سريعا.
الأمر ذاته يستعصي على مصر بحجمها وعلى ما تمثله علاقاتها من الأهمية الإستراتيجية لتل أبيب، كذلك يستعصي على الموفد الأممي للسلام نيكولاي ملادينوف والموفدين الدوليين. فلم يمر سوى ثلاثة أيام على وجود وفد أمني مصري يحاول التوصل إلى اتفاق تهدئة جديد، لكن ذلك الوفد عاد إلى القاهرة سريعا لأن آليات ولغة تواصله مع الطرفين، تختلف عن لغة العمادي، علما بأن العلاقة بين مصر وإسرائيل رسمية ومعلنة بصفتها هذه، بينما العلاقة بين قطر وإسرائيل، لا يعرف لها أساس، وهي حمالة أوجه عميقة، استقرت على ثوابت وخلفيات غير معلنة، وبالطبع، ليس دعم المقاومة، من بين هذه الخلفيات والثوابت، ولا التمكين لمشروع إسلامي في المنطقة، ولن يكون من المتفق عليه، بالنسبة لقطاع غزة، إيجاد حلول جذرية لمصاعب الحياة اليومية للناس.
الفلسطينيون من جانبهم لا يملكون ترف الاشتراط بأن تكون الخلفيات السياسية والأمنية لما يصل من الدعم، نبيلة ومنزهة عن المقاصد التطبيعية، لكن المنطق والعدل والنزاهة تقتضي كلها المساواة بين الداعمين، فلا يكون طرف صاحب أياد بيضاء، عندما يقدم دعما، وطرف آخر يكون شيطانا ومتآمرا، لاسيما وأن التطبيع والعلاقات واللقاءات كلها تتشابه في ظاهرها، لكنها تختلف في جوهرها.
العلاقات القطرية-الإسرائيلية لا تزال أكثر عمقا، وفي كل زيارة للعمادي يتضح أن للدوحة دالة على إسرائيل أكبر مما لعاصمتين عربيتين في كل منهما سفارة إسرائيلية. الملاحظة هنا ليست موجهة إلى قيادة حماس في غزة، لأن هذه القيادة ليست صاحبة “الإنجاز” اللوجستي، وإنما هي المتلقية له على ما فيه من العوار.
وعندما ينقل الدعم المالي في حقائب تكون الطريقة نفسها مسيئة للفلسطينيين، لأن قوامها هو نقل المال بطريقة تشبه التهريب وتتحاشى العوائق المصرفية، بينما الأصل ألا تكون هناك عوائق مصرفية أمام المساعدات الاجتماعية. هنا يكون المعنى الموضوعي للنقل بهذه الطريقة، هو التأكيد على استثنائية الدعم وعلى عدم مشروعية نقل المساعدات الاجتماعية لغزة. هذا بحد ذاته مسيء للفلسطينيين.
والفضاء الإخواني – القطري – التركي، هو صاحب “الإنجاز” الإغاثي الظاهري، الشبيه بوجبات الطعام التي يقدمها السجان للسجين، لكي يظل حيا ويتعذب. ولو كان لدى القائمين على هذا الفضاء، شيء من سلامة القياس ومن تلازم العدستين في المنظار الواحد؛ لما اخترعوا الفارق بين تطبيع وتطبيع، بحيث تكون هناك علاقات حميدة ومباركة مع إسرائيل وعلاقات مرفوضة يتوجب شجبها. فلكل مشروع تطبيع، محركاته سواء في لعبة الأمم أو في نزاعات الإقليم أو في الأوهام الكثيرة التي ترى في إسرائيل سندا.
لا نقول ذلك، تبريرا أو تقبلا لأي تطبيع، وإنما رفضا لأن تهجم جماعة “الإخوان” بكل جحافل مواليها، على بلد آخر، هو على خلاف مع الدوحة، بسبب اقترابه من جنس العمل الذي تفعله الدوحة نفسها. فلا وصف لذلك سوى أنه نوع من النفاق والمتاجرة والاستهبال.
ولنا أن نتصور حجم النفاق لو ظهر في الأفق “عمادي” آخر، يكون هذه المرة إماراتيا. صحيح إنه لن يمتلك مهارة أخيه العمادي القطري، ودرايته بدروب إسرائيل ودلاله في تل أبيب، ولكنه سيكون في قلب نوع الفعل ذاته ما يقتضي احترام عقول الناس والكف عن مهاجمته.