محمد أبوالفضل يكتب:

فائض الدهاء في الدولة المصرية

يخلط كثيرون بين الدولة ورئيس الجمهورية والحكومة في مصر، وزاد عليهم مؤخرا البرلمان بحكم علاقته الوثيقة بالنظام الحاكم والحكومة، ويتعاملون معهم باعتبارهم كيانا واحدا، ويتجاهل هؤلاء الفروقات النسبية بين هذه المكونات، ويطلقون على كل منها لقب الدولة مجازا، والتي تضم تحتها كل الأجهزة والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية، ويعتقدون أنها تتحكم في الحركة صعودا وهبوطا.

يظهر التباين بوضوح في بعض المحكات الرئيسية التي تحتاج إلى تغليب خطاب الدولة، وتحمّل المسؤولية الكاملة والترفع عن الحسابات الضيقة، والبعد عن لغة المصالح والمكاسب والخسائر، لأن المسألة أبعد من تحقيق نصر مادي أو معنوي، وتتعلق بجوهر الدولة ككيان جامع، يتكون من أرض وشعب وحكومة، وينأى عن الأشخاص وتقديراتهم المباشرة.

يأتي هذا الكلام بمناسبة تجميد مجلس النواب المصري قانونا لسحب صلاحية الفتوى من الأزهر ووضعها في جعبة الحكومة، ورفضه مجلس الدولة، كجهة قضائية مسؤولة عن مراجعة القوانين، ووجد في القانون الذي أقره البرلمان ثغرات جعلته يتعارض مع الدستور، وهو أبوالقوانين في كل الدول.

في اليوم التالي لهذا الرفض، الاثنين الماضي، قرر البرلمان العناد، وبالطبع الحكومة التي أوعزت إليه بمشروع القانون، تحدى القضاء وعدم الاعتداد بتحفظاته الجوهرية، وقرر التصويت على القانون، كسلطة مستقلة، وليست المشكلة في حدود الاستقلال أو معارضة مجلس الدولة، بل في التصميم على تمرير قانون تحيط به شبهات سياسية.

لم يستسلم الأزهر لسلب ما يراه في صميم صلاحياته، وطلب شيخه الدكتور أحمد الطيب حضور جلسة البرلمان للرد على المدافعين عن نقل الإفتاء من الأزهر إلى جهة تابعة للحكومة وتفنيد الحجج، دون ضجيج أو افتعال صدام أو ادعاء بطولة.

أسقط في يد البرلمان، فالقبول بحضور شيخ الأزهر والاستماع إليه يعني احتمال أن تحدث معركة تشد انتباه المواطنين، وقد ينحازون إليه، لأنه رصين ومفوه ومقنع، وأدار كل خلافاته بالصبر والصمت والحنكة وربح غالبيتها وحظي بمساندة من قبل قطاع كبير، تقديرا واحتراما وتوقيرا، حتى لو كانت له أو من يعملون معه آراء متشددة.

يعرف الشيخ الطيب حجم القداسة الشعبية الممنوحة لمؤسسته وله شخصيا، ويجيد استغلالها، وهي التي عصمته من العصف به مبكرا، عندما دخل في صدامات وصلت حد الخلاف مع رئيس الجمهورية، ولذلك راهن على أن دخوله البرلمان والرد على الاستفسارات يخرجانه رابحا سياسيا، ولو جاءت نتيجة القانون عكس ما يريد.

في هذه اللحظة، تجلى دور الدولة المصرية في الجهات المسؤولة عن إدارة المشهد، واتخذ البرلمان قرارا بعدم إقرار القانون، وترحيله لمجلس النواب المقبل، أي بعد نحو خمسة أشهر، فالجلسة المقررة لتمريره هي الأخيرة في دورة المجلس الحالي.

أوقف الترحيل خلافا كان من الممكن أن يتصاعد، فالبرلمان المنتهية دورته أقر حزمة كبيرة من القوانين غير المسبوقة في تاريخ مصر، بسبب فترة الارتباك التي سبقت وأعقبت العام الذي حكمت فيه جماعة الإخوان البلاد، ومن الضروري ترتيب الأوضاع بالصورة التي تتناسب مع رؤية النظام الجديد، والبرلمان هو الأداة المسؤولة عن تشريع القوانين لتتواءم مع الدستور والمرحلة السياسية الراهنة.

شيخ الأزهر أحمد الطيب يعرف حجم القداسة الشعبية الممنوحة لمؤسسته وله شخصيا ويجيد استغلالها، وهي التي عصمته من العصف به مبكرا

يصف المصريون هذه النوعية من المواقف بالدور الخفي للدولة أو “الكهنة” كما يسمى في بعض الأوساط، حيث يلجأون إلى التفكير خارج الصندوق الذي اعتادوا عليه، ففي هذا القانون من الطبيعي أن تصر الحكومة على مشروعها ويصمم البرلمان على إجازته ويحقق النظام الحاكم أهدافه، غير أن الدهاء ظهر في لحظة حرجة.

إذا جرى تمرير القانون في أجواء مشحونة من الممكن أن تزداد الأمور تعقيدا، ويستغل الرافضون له التعاطف الشعبي المتوقع مع الأزهر لتحريض الشارع على البرلمان والحكومة والنظام برمته، وربما تتعرض الدولة نفسها لمشكلات عميقة، لاسيما تجاه من يرى الناس أنهم يريدون تقويض دور المؤسسة الدينية التقليدية.

هناك أزمات سابقة تم تجاوزها وهُزم فيها الأزهر دون أن تمس ثوابته الرئيسية، وهذه المرة القضية لها علاقة بالجذور، ويقف القضاء مساندا كسلطة لها حصانة واحترام لدى المواطنين، ويمكن أن تستغل المعارضة القانون، وتبني عليه أزمة كبيرة بين مؤسسات الدولة، وتنفجر مشكلة تأتي على الأخضر واليابس من القوانين التي صاحبها الكثير من علامات الاستفهام، بشأن تحصين بعض الجهات السيادية، أو منح رئيس الجمهورية صلاحيات كبيرة، وما إلى ذلك من ملفات إشكالية.

نزع الدهاء المتراكم فتيل أزمة كهذه، وأجبر مؤسسات كبيرة على الانحناء لمنع هبوب عاصفة سياسية، ووجد “الكهنة” طريقة تخرج الأجهزة الرسمية بأقل الخسائر الممكنة، على وعد بإعادة الكرّة مرة ثانية عندما تكون الظروف أكثر نضجا، والأزهر أكثر ضعفا، فتوقيت القرارات عملية مهمة، والمرونة مطلوبة لتفادي تضحيات أكبر.

تعلمت الدولة المصرية من التاريخ الطويل الاستفادة من الخبرات، وتوظيف المخزون الحضاري للدهاء، وكانت ذروته وقت أن مُنحت الفرصة للإخوان لحكم مصر، ورُفع الستار عن التضخم المعنوي الذي أحاط بالجماعة بذريعة أنها لم تختبر، ولم تمنح الفرصة للحكم، وما إلى ذلك من شعارات استخدمت لتجاوز عقبات سياسية معينة.

قررت الدولة “الكهنة”، وليس المجلس العسكري الحاكم آنذاك، تسمية الإخواني الراحل محمد مرسي رئيسا لمصر على حساب الفريق أحمد شفيق، المتفوق في الانتخابات، وخلال عام واحد في الحكم عرف الجمهور العريض من المصريين ألاعيب الإخوان، وقصة السقوط معروفة ولا داعي لتكرارها، ولعبت فيها الدولة المصرية بمعناها الشامل دورا مهما في التخلص من سردية الإخوان.

يتخطى مفهوم التأثير القوي ما هو ظاهر على السطح من أجهزة أمنية ومؤسسات مدنية، إلى المكونات المتوارثة من أجيال سابقة، التي توفر الحكمة للتعامل مع المواقف الصعبة، داخليا وخارجيا، فالمحن التي مرت بها مصر كثيرة ومتشعبة، أفادتها من ناحية تعلم فضيلة الصبر والقفز فوق الأشواك وتجنب الوقوع في الشراك.

قد لا تعبأ الدولة بالإصلاحات السياسية أو ترى في الديمقراطية شيئا قليل الأهمية، ولها مفهوم خاص في حقوق الإنسان، وتقع في مشكلات بسبب التوجهات السلبية لهذه المحددات، غير أنها لم تصل بعد إلى مستوى العناد والإنكار واللاجدوى، وترى أن هناك أولويات مجتمعية من الضروري ترتيبها بالصورة التي تراها مناسبة.

تكمن أزمة الاعتماد على ميراث الدهاء في عاملين، الأول صعوبة السيطرة على حركة الشارع، فقد ينفجر فجأة إذا وصل مستوى الثقة حد تجاهل مطالبه الأساسية والإفراط في كبحه، اعتمادا على صبره الطويل، والثاني أن العالم أصبح حُجرة صغيرة، يتبادل الخبرات والأصداء ولا يُوجد شعب منعزل بالفطرة أو دولة مُحصنة، بالتالي من الواجب الاهتمام بالمؤثرات الخارجية العابرة للحدود.