محمد أبوالفضل يكتب:

الحكومة المصرية تسير في حقل ألغام

لا يقل قانون الإيجار القديم أهمية عن قانون الأحوال الشخصية فكلاهما يلمس أوجاعا مختلفة داخل المجتمع لم تعد تحتمل التغاضي عنها لأن المواطنين سوف يلجأون إلى حل مشاكلهم بطرقهم الخاصة

تجد الحكومة المصرية في قرار المحكمة الدستورية العليا المتعلق ببطلان قانون الإيجار القديم قبل أيام، فرصة لضبط العلاقة بين ملاك الوحدات السكنية ومستأجريها بما يتناسب مع الواقع الراهن الذي شهد ارتفاعا كبيرا في سوق العقارات، بينما بقي المستأجرون على حالهم منذ عقود طويلة، باستثناء زيادات طفيفة لا ترضي الملاك.

وكلما حاولت حكومات عدة الاقتراب من هذا الملف وجدت نفسها أمام عقبات تمنعها من تعديل قانون الإيجار القديم، حيث يمس مصالح الملايين من الأفراد، غالبيتهم من أصحاب الدخول المنخفضة، لا يستطيعون مجاراة الأسعار المرتفعة في هذه الأيام، إذا فكروا في بديل آخر، أو التخلي عاطفيا عن سكن يقطنونه منذ سنوات طويلة.

الحكومة المصرية اتخذت خطوات جيدة في قضايا مهمة، غير أن تقديمها للرأي العام وإخراجها السيء من خلال وسائل الإعلام وتوقيتها غير المناسب أجهضت المزايا التي تحملها

يعلم المسؤولون في الدولة عن هذا الملف أن هناك أزمة متشعبة تحيط به، اجتماعية واقتصادية، وربما أمنية إذا فكروا في الاحتجاج على تغييره، ولذلك حاولت السلطة تجنب الاقتراب من القانون بما يفضي إلى تعديله بالشكل الذي يتناسب مع التطورات الحالية في سوق العقارات، وتجاهل الأصوات المرتفعة المتذمرة من تجميده كلما دخل البرلمان من أجل سن تشريع يتواءم مع المستجدات، حيث ينطوي القانون القديم على جملة من الألغام قد تنفجر في وجه السلطة عامة، بعد أن تصاعدت حدة الاستقطاب بين من يصرون على التعديل ومن يتمسكون بأن يبقى على ما هو عليه.

تستمر حالة الاستقطاب منذ فترة، ولدى كل طرف مسوغات يقدمها للتجميد أو التغيير، ولعبت أصحاب المصالح دورا مهما في عدم التغيير أو التحريك وفسخ العلاقة القديمة، ما جعل أعضاء في الحكومة يترددون في حث البرلمان على صياغة تشريع، خوفا من التداعيات التي يمكن أن تترتب عليه، بينما حاول آخرون الدفع نحو تغييره.

قدمت المحكمة الدستورية الغطاء القانوني للحكومة الحالية لتقدم مشروعا للبرلمان أو تخرج من أدراجها أحد المشروعات المتعلقة بتعديله ولم تتمكن أي حكومة سابقة من تمريره، وفي كل الحالات المسألة لن تكون سهلة، فالمحكمة قالت كلمتها بناء على المعطيات النظرية المتوافرة لديها من جهة القانون والدستور، بينما التطبيق العملي شيء آخر وله محددات من الضروري مراعاتها، في توقيت لا يحتمل تفجير قنابل إضافية في المجتمع، سوف ترتد إلى وجه حكومة تسعى لتخفيف الأعباء عن المواطنين وعدم مضاعفة إرهاقهم، فجزء من الشريحة التي يمسها القانون فقيرة.

يحوي تعديل قانون الإيجار القديم طرفين، أحدهما متضرر وهو المستأجرون، والآخر مستفيد وهو الملاك، وبلغت العلاقة بينهما في السنوات الماضية مستوى متدنيا من التراشقات، وصلت حد التفنن في المراوغات كي يحافظ الفريق الأول على ما يعتبره حقا مكتسبا، ويغير الفريق الثاني ما يراه ظلما بيّنا.

قانون الإيجار القديم لا يقل أهمية عن قانون الأحوال الشخصية، فكلاهما يلمس وترا حساسا وأوجاعا مختلفة داخل المجتمع لم تعد تحتمل التغاضي عنها

ودخل الشد والجذب بينهما مربعا مخيفا، وقفت الحكومة عاجزة عن التعامل معه، فلا هي قادرة على التعديل بصرامة، ولا الاستمرار في الصمت فترة طويلة، لأن الوضع بات شاذا ومقلقا وسوف ينكأ جراحا متعددة إذا تمت المعالجة من دون حكمة أو حسابات دقيقة أو تجاهلتها يمكن أن يتمخض عنها من روافد مجتمعية.

تتمهل الحكومة حتى الآن في التعامل مع قرار المحكمة الدستورية، وربما تدرس الطريقة المثلى للاشتباك معه، فلم تعلن عن آلية محددة تتبناها، وأدى صمتها إلى قلق في صفوف الفريقين المتصارعين على التجميد والتعديل، فقد ذهب البعض إلى أنها تجهز المسرح للقيام بتغيير جذري يحقق العدالة للجميع، بينما قال آخرون إنها لن تقترب منه في هذه الأجواء الساخنة والتي تراكمت فيها المشكلات.

في حين رجح فريق ثالث أن تستغل الفرصة التي وفرتها المحكمة وتسرّع عجلاتها لتقديم قانون جديد إلى مجلس النواب، يمكن أن يقره في دورته البرلمانية الأخيرة قبل إجراء الانتخابات العام المقبل، لأن تجربتها مع هذا البرلمان مكنتها من إجازة عشرات التشريعات بسلاسة في قضايا متباينة ومهمة، وربما لا تتكرر هذه المسألة مع التشكيلة الجديدة في البرلمان القادم، والذي قد يشهد تغييرا في تركيبته الحزبية، بما لا يساعد الحكومة على تمرير قوانينها بسهولة وتواجه اعتراضا يعطل أي مشروع تتقدم به.

تتسلح الحكومة أيضا بدعم واضح من الرئيس عبدالفتاح السيسي من أجل الشروع في تعديل قانون الإيجار القديم، حيث أبدى عدم ترحيبه بالجمود الذي يكتنفه، وألمح إلى أهمية تحقيق العدالة فيه، ما يجعل الحكومة مضطرة للتعامل مع الأمر بجدية كبيرة لإنهاء واحدة من الأزمات الهيكلية المطروحة على الساحة، في إطار ثورة القوانين التي تتبناها، والتي تريد منها إحداث طفرة تشريعية.

فهناك قضايا ظلت مثارة منذ عقود طويلة ولم يتم الاقتراب منها أو تحديث قوانينها إلا مؤخرا، مثل قانون الأحوال الشخصية، الذي بدأت السلطة تنتبه إلى خطورة ما أصابه من تكلس، وتدرك مغبة النتائج السلبية المترتبة على عدم تجديد دماء هذا القانون كي يتسق مع التحركات الحاصلة في الأسرة.

الحكومة المصرية تجد في قرار المحكمة الدستورية العليا المتعلق ببطلان قانون الإيجار القديم قبل أيام، فرصة لضبط العلاقة بين ملاك الوحدات السكنية ومستأجريها

ولا يقل قانون الإيجار القديم أهمية عن قانون الأحوال الشخصية، فكلاهما يلمس وترا حساسا وأوجاعا مختلفة داخل المجتمع لم تعد تحتمل التغاضي عنها، لأن المواطنين سوف يلجأون إلى حل مشاكلهم بطرقهم الخاصة، إذا تيقنوا أن القوانين لن تسعفهم.

تدرك الحكومة الخطورة التي يقود إليها هذا الاتجاه والارتدادات التي يحملها التوسع فيه، وتعاملت بإيجابية مع قانون الأحوال الشخصية وأدخلت عليه تعديلات جيدة، غالبيتها تنصف المرأة، ويمكن أن تكرر التجربة في قانون الإيجار القديم، إذا قررت وضع قانون منصف، لا يجور على أحد الطرفين، وتمكنت من اختيار التوقيت المناسب للإعلان عنه.

فقد اتخذت الحكومة المصرية خطوات جيدة في قضايا مهمة، غير أن تقديمها للرأي العام وإخراجها السيء من خلال وسائل الإعلام وتوقيتها غير المناسب أجهضت المزايا التي تحملها، وربما قدمت صورة قاتمة عنها، ما يفرض عليها عند تقديم تشريع لقانون الإيجار القديم أن تنتبه إلى طبيعة المتضررين منه، وتحاول طمأنتهم عبر شرح واف وواضح لما يتضمنه.

وفي ظل توجهاتها الليبرالية هي متهمة تلقائيا بالانحياز إلى طبقة الملاك، ولنفي ذلك وتجاوز المطبات التي يؤدي إليها القانون عليها أن تقوم بتنظيفه من المشاكل، أو على الأقل الحد منها، لأنه سيقابل عند صدوره بضجة تزيد من أوجاع الحكومة، وما لم تتصرف بحكمة ومرونة سوف تجد نفسها محاطة بإشكاليات عديدة أشد وطأة مما واجهته في كل القوانين السابقة ذات المكونات الاجتماعية.