محمد أبوالفضل يكتب:
محاولة إنقاذ سوريا لا تقل عن غزة
هبت دول عربية عديدة من أجل إنقاذ قطاع غزة من مغبة مقترح الرئيس الأميركي دونالد ترامب الخاص بتهجير سكانه، وعُقدت قمة طارئة في القاهرة لتقديم مقترح بديل، بدأت تحقق نسبيا هدفها في التراجع عن توطين فلسطينيين في مصر والأردن، وتستحق سوريا خطة عربية للتصدي لمحاولات تفتيتها وزرع الفتنة وزيادة أطماع دول إقليمية فيها، ووقف توغل إسرائيل، وتحريض طوائف معينة على التمرد.
بالطبع يصعب القطع بأن الدول العربية نجحت في وقف تحويل مقترح ترامب إلى واقع، لكن الجهود التي بذلت والتصورات التي قدمت نجحت حتى الآن في تقويض خطط من أرادوا تصفية القضية الفلسطينية، وهو ما يمكن أن يقدمه العرب بشأن سوريا، فهناك من يريدون تغذية الحالة الطائفية وخلق أجواء مواتية لتصاعدها عقب أحداث اللاذقية، والتي لا أحد يقطع بمعرفة مرتكبيها ومن حرّضوا عليها بالضبط في ظل معلومات متضاربة، لكن قصص خرجت من الساحل مفزعة، وتنذر بأن مستقبل هذه الدولة في مهب الريح، ما لم تكن هناك تحركات على قدر المسؤولية.
من توافقوا على الحد الأدنى بالنسبة إلى غزة وجنبوا خلافاتهم يمكنهم التوافق حول سوريا وإيجاد حد أدنى من التفاهمات، ولا يكررون ما جرى منذ اندلاع ثورتها، حيث أسهم تباين المواقف من النظام السابق وتطورات الثورة والأطراف الفاعلة في إطالة أمد الحرب، ناهيك عن تدخلات قوى إقليمية ودولية ضاعفت المأزق، وبعد سقوط نظام بشار الأسد وتوابعه بدأت سوريا تواجه أخطر تحدياتها الإستراتيجية، والنتيجة التي سوف تستقر عليها الأوضاع ستكون لها انعكاسات على عدد من الدول العربية.
إذا انزلقت سوريا إلى اقتتال أهلي جديد لن تكون هناك فرصة سريعة لإنقاذها من فتنة طائفية زادت ملامحها، وإن دخلت في حرب أهلية سوف تتغير خريطتها الجغرافية، فالخليط السياسي والتعقيد العسكري والموزاييك الاجتماعي الذي تعج به لن يسمح للدول العربية بأي تدخل حقيقي لإنقاذها، وما حدث خلال الأيام الماضية بروفة جعلت هذا الشبح ليس ببعيد، بما يفرض خطة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ترك الملف في يد تركيا يعني أنها ستقوم بترتيبه والتحكم فيه، ولن تقتصر تأثيراته على ما يجري داخل سوريا من تطورات مصيرية، بل ستكون لتركيا يد أطول في العراق، وتتلامس مع لبنان المرتبط بسوريا تاريخيا، وقد تهبط على غزة وملحقاتها، وتلعب دورا محوريا في غاز شرق البحر المتوسط، ويمكنها أن تناور وتساوم وتتفق مع إسرائيل التي يفضي تغولها داخل أراضي سوريا إلى إضعاف موقف الدول العربية في غزة والقضية الفلسطينية برمتها.
ولا يحتمل الحديث عن أهداف إيران في سوريا مزيدا من التفصيل، فهناك طعنة تلقتها طهران عقب سقوط نظام بشار الأسد، وفراغ سيجعلها تعاني لفترة طويلة، ولن تتوقف محاولاتها عن منع تمكين النظام الجديد في دمشق من ترتيب أوضاعه بهدوء، ولن تترد د في تحريك بعض الأزمات في سوريا، على أمل أن تستعيد لياقتها وتسترد عافيتها فيها وتمنع خصومها من تحقيق مكاسب على حسابها، لأن الشكل الذي سوف تظهر عليه سوريا ستكون له عواقب على من حولها، وفي مقدمتهم إيران.
لعل هذه البانوراما كفيلة أن تدفع الدول العربية للتعاون والتنسيق وتقدم تصورا جديدا قبل إعادة هندسة الأوضاع من قبل تركيا وإسرائيل وإيران بطريقة تتواءم مع مصالح كل منهم، وتجد بعض الدول العربية، بما فيها دول تعتقد أنها على علم بما يدور في كواليس دمشق، نفسها خارج إطار ما يتم الترتيب له، وتصور قطر مثلا أنها أسهمت في تمكين وصول هيئة تحرير الشام والفصائل المسلحة المتحالفة معها يخول لها قطف الثمار لن يثني قوى أخرى عن مضايقتها في سوريا.
من الواضح أن سلبيات ما يجري في سوريا لن تقتصر على نطاق يتعلق بأبنائها وتغيير هويتها الجيوسياسية، لأن روافد ذلك ستصل إلى بعض الدول العربية، سواء أكانت متداخلة مباشرة في سوريا أم لا، فطالما هناك رؤى متضاربة لن تنعم سوريا أو هؤلاء بدرجة مريحة من الاستقرار، ما يحتّم القيام باستدارة أو هبة عربية لا تقل عن تلك التي ظهرت بعد أن كاد مقترح ترامب بشأن التوطين وغزة يتحول إلى واقع، إذ يقوض التنسيق العربي من فرص شرود الإدارة الجديدة في دمشق، ويخفض من مستوى تحكم قوى إقليمية في دفتها، ويقلل من شبح الفتنة الطائفية.
ينطوي التقاعس والتخلي والبعد والنأي العربي عن سوريا على مخاطر لن تنحصر داخل حدودها، بينما التوافق والتفاهم والتعاون إن لم يأت بكل النتائج الإيجابية المرجوة سوف يحد من النتائج السلبية التي لاحت في الأفق بعد أحداث اللاذقية، وزادت من التشاؤم حول ما ينتظر سوريا، فأشد أنواع الأزمات التي تواجهها الدول ما يمسّ اللُّحمة الوطنية ويعبث بها ويوظفها لصالح تحقيق أهداف معينة، وفي ظل حالة التشظي الداخلية والهواجس وفائض التدخلات الخارجية لن تستطيع سوريا الحفاظ على قدر من تماسك يساعدها على الصمود في وجه طوفان من العواصف.
يحتاج إنقاذ سوريا مواجهة عربية صريحة لما تواجهه من تحديات وعدم المشاركة في ما يحاك من مؤامرات، ثم وضع خطة إنقاذ تحمي المقدرات الحيوية للدولة، وتضيق الفرص على ضياعها ودق مسمار جديد في نعش منظومة الأمن القومي العربي قد تصبح أشد ضراوة من كل ما حدث على مدار العقود الثلاثة الماضية التي اهتزت فيها الأوضاع في العراق واليمن وليبيا والسودان، وقبلهم الصومال.
لن تتوقف السلسلة عند سوريا إذا وقفت الدول العربية تتفرج ويشارك بعضها في حدوث المزيد من الانهيار داخل سوريا بعد أن أفصحت إسرائيل عن نواياها، ولا يوجد ما يخفي نوايا تركيا أو أغراض إيران، وإذا نجحت هذه الدول في القبض على مفاصل سوريا جيدا أو أجزاء منها لن توجد حاجة إلى أي خطة أو رافعة عربية. فميزة خطة غزة أنها جاءت سريعة وعملية وعلى قدر المسؤولية ولعبت على فائض من القواسم المشتركة بين الدول العربية وحيدت التناقضات.
توجد قواسم مشتركة عربية عديدة بشأن سوريا، ومهما كان تضارب الحسابات حولها كبيرا، يمكن تقزيمه عندما يدرك العرب أن ضياع سوريا ودخولها نفقا مظلما من جملة أنفاق عدة على مقربة منها لن يكون قاصرا عليها، وما يتم التخطيط له من سيناريوهات أخطر كثيرا من أي مكاسب ربما تحققها دولة عربية متحالفة أو متواطئة مع تركيا أو إسرائيل أو إيران.