محمد أبوالفضل يكتب:

العدالة الاجتماعية: مطلب أولي قبل سياسات الحماية الاجتماعية في مصر

تبذل الحكومة المصرية جهودا مضنية لتوفير الحماية الاجتماعية لشريحة واسعة من المواطنين لتمكينهم من مواجهة الأعباء المعيشية الناجمة عن تطبيق روشتة الإصلاحات الاقتصادية المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي، والتي أدت إلى تخفيض الدعم على عدد من السلع الأساسية وزيادة أسعار سلع وخدمات أخرى.

وكل البرامج الاجتماعية التي قدمتها الحكومة بأشكال وأنواع مختلفة لم تحقق الغرض الرئيسي منها، وهو تخفيف معاناة المشمولين بها بشكل ملموس، وعدم شعور فئة منهم بالرضاء عمّا يتلقّونه من مساعدات ويعتقدون أن الحكومة بإمكانها تقديم المزيد لهم.

زادت المشكلة مع معاناة شريحة لا تشملها برامج الحماية التي توفرها الدولة، فقد أدى لهيب الأسعار المرتفعة إلى فقدان المنتمين لهذه الشريحة، وغالبيتهم من الطبقة المتوسطة، للقيمة المادية لما يتحصّلون عليه من نقود، مع زيادة التضخم وخسارة الجنيه المصري لجزء كبير من قيمته مقابل العملات الأجنبية.

مصريون كثيرون ينظرون إلى عملية العدالة بنوع من التقدير لأنها انعكاس لقوة الدولة وإرادتها في التغيير والمساواة وضبط بعض المفاتيح المختلة والعكس صحيح حيث يمثل عدم الاعتداد بها رسالة سلبية

وكان هؤلاء ينتظرون زيادة في مرتباتهم، تردد أن الرئيس عبدالفتاح السيسي سيعلنها خلال احتفال نظمه اتحاد القبائل العربية والعائلات المصرية، السبت، لكن انتهى الكرنفال بلا حوافز أو وعود محددة، وتبين أن المعلومات التي جرى الترويج لها بشأن الزيادة غير حقيقية، مع أن مصدرها نواب في البرلمان وإعلاميون قريبون من الحكومة، يصعب أن يقدموا اجتهادات من أنفسهم في قضية حيوية.

يظل ملفا الحماية الاجتماعية وزيادة المرتبات والمعاشات للموظفين صداعا في رأس الحكومة مهما قدمت من دعم فيهما، لأن قدراتها الاقتصادية محدودة ولن تمكنها من الوفاء بالحد المادي الذي يمكن أن يجد قبولا عند المعنيين بهما، في وقت تحاول فيه القاهرة تخطي أزمة اقتصادية مستعصية والوفاء باشتراطات صندوق النقد، أملا في تعديلها وتخفيفها بما يتواءم مع نتائج التوترات الإقليمية التي أرخت بظلال سلبية على الأوضاع الاقتصادية في مصر، وحجّمت من توجه الحكومة نحو تقديم مساعدات جديدة للمواطنين في الوقت الراهن.

ينصبّ تركيز الحكومة على فكرة الحماية الاجتماعية، ولا تمنح اهتماما مناسبا بعملية العدالة الاجتماعية، ومهما كانت الجهود الإيجابية المبذولة في الأولى فإن الحكومة لن تتمكن من الوفاء بكل متطلباتها، لارتفاع عدد المحتاجين للدعم، الذي يصل إلى نصف عدد السكان، أي نحو خمسين مليون نسمة، وتحرك خط الفقر إلى مستوى أعلى، والذي أسهم في زيادة عدد من يحتاجون للحماية الاجتماعية، ما يمثل إرهاقا لميزانية الدولة.

بينما تحقيق العدالة الاجتماعية يمكن أن يوفر على الحكومة جزءا من الأعباء المادية، لكنه يحتاج إلى إرادة سياسية، فالعدالة لها جوانب عديدة، بعضها يُشعر المصريين بالغبن والتفرقة والإحباط، وربما يؤثّر على ترسيخ الانتماء الوطني الذي تطالب السلطة الشباب به، ولن يجد استجابة كبيرة ما لم يشعروا بالمساواة.

تظل أعين فئة كبيرة من المصريين مصوّبة ناحية العدالة الاجتماعية الغائبة، على أمل أن يأتي الوقت الذي تجد الحكومة فيه نفسها قادرة على تطبيقها

بدت الحكومة مسرفة في مسألة الحماية ومتجاهلة للعدالة، باعتبار أن الأولى أيسر في تطبيقها ولن تضطرها إلى تفجير قضايا مجتمعية مزمنة أو الدخول في أزمات مع جماعات ضغط تراكمت عبر العشرات من السنين، وأصبح لها نفوذ واسع في ما يسمّى بالدولة العميقة، التي تستطيع أن تؤثر في بعض هياكل الدولة حفاظا على مصالحها، وربما تناست الحكومة هذا الملف لأنها لا تريد تفجيره في توقيت تواجه فيه تحديات على مستويات مختلفة، وتراه ليس بالعجلة التي تجعلها تجازف وتحاول ضبطه بلا حسابات دقيقة، وقد يكون لا يحتل أولوية أساسا في أجندتها.

ينظر مصريون كثيرون إلى عملية العدالة بنوع من التقدير، لأنها انعكاس لقوة الدولة وإرادتها في التغيير والمساواة وضبط بعض المفاتيح المختلة في المجتمع، والعكس صحيح، حيث يمثل عدم الاعتداد بها رسالة سلبية، ويوحي بأن الحكومة تركز على برامج الحماية للابتعاد عن العدالة، التي تحتاج إلى جهود كبيرة، خاصة أنها صفحة مؤجلة منذ سنوات طويلة.

ولا يضير الكثير من المصريين فقرهم أو ما يواجهونه من أزمات اجتماعية، لكن يضيرهم عدم شعورهم بالعدالة في الوظائف والمرتبات والتعليم، وما إلى ذلك من فروق نسبية في مجالات متعددة، وبقدر ما يعد إنجازها خطوة مهمة إلى الأمام يصبح الإخفاق فيها أو تجاهلها نقطة تحسب ضد السلطة عموما، والتي تجد في المهمشين والبسطاء سندا شعبيا كبيرا وقت الأزمات والمحكات الصعبة.

حققت بعض الدول التي مرت بفترات توتر وثورات ما يسمّى بالعدالة الانتقالية، وبعد ثورتي يناير 2011 ويونيو 2013 تصاعدت حدة المطالبة بتطبيقها في مصر، ودار جدل كبير حولها، لم تجد دعما من الحكومات المتعاقبة، وبدا أن اللجوء إلى تجاهلها قد يفجر مشكلات أكبر مما يقلل من التوابع الملفوظة اجتماعيا.

يظل ملفا الحماية الاجتماعية وزيادة المرتبات والمعاشات للموظفين صداعا في رأس الحكومة مهما قدمت من دعم فيهما، لأنها لن تمكنها من الوفاء بالحد المادي الذي يمكن أن يجد قبولا عند المعنيين بهما

ومع مضي السنوات تاه الملف وسط زحمة القضايا الداخلية المتشابكة، أبرزها الحرب على الإرهاب التي استغرقت وقتا طويلا، وبعد أن فرغت منها أجهزة الدولة وجدت نفسها أمام واقع معقد ومضطرب، يحتاج إلى قدر كبير من التكاتف والتلاحم والوفاق الداخلي، لأن التعرض لملف كبير بحجم العدالة الاجتماعية يحتاج إلى بيئة مهيأة لتقبل ما سوف يتمخض عنه من نتائج متشابكة.

قد تكون السلطة وضعته على الرف مؤقتا، لأن ما سيترتب عليه مثير، حيث هناك طبقة مستفيدة، عمدت الفترة الماضية إلى توسيع حلقاتها بما جعلها عصية على أن تقترب آليات الحكومة منها، وفتحت لأعضائها نوافذ بالقرب من دوائر السلطة وداخلها، وزاد تضخم مصالحها بشكل أوجد لها أذرعا نافذة تمكنها من الدفاع عنها تلقائيا.

ولذلك أصبح ملف العدالة الاجتماعية مهمشا أو منسيا، ومن دون أن تقدم الحكومة توضيحا صادقا وشافيا للمواطنين، واكتفت بأن تقدم لهم أنواعا متباينة من برامج الحماية، والتي كان يمكن أن تكون أكثر جدوى لو طبقت بطريقة سليمة واتجهت الحماية لمن يستحقونها فعلا، بالمقدار الذي يمكن أن يوفي بجزء معتبر من متطلباتهم، وهي الصيغة التي تبحث عنها الحكومة، لكنها لا تزال غارقة في وحل البيروقراطية، بما قلل من تأثير الفائدة والجدوى والنتيجة المرجوة من الحماية الاجتماعية.

تظل أعين فئة كبيرة من المصريين مصوّبة ناحية العدالة الاجتماعية الغائبة، على أمل أن يأتي الوقت الذي تجد الحكومة فيه نفسها قادرة على تطبيقها، لكن المشكلة أن عدم المواجهة أو تأجيلها أو التسويف فيها باستمرار، يضاعف من صعوبة الاستدارة إليها، فالعراقيل الموضوعة والمطبات الصلبة والفخاخ المنصوبة التي تتراكم بمضي الوقت، كفيلة أن تردع الحكومة عن مواجهتها وعدم الاقتراب من ملفها حاليا.

فهناك كمية كبيرة من الارتدادات سوف تخرج من رحمها، كفيلة أن تحول المواجهة من محاولة للعلاج إلى أزمة عميقة لن توفر العدالة المنشودة، وربما تخصم من رصيد الحماية الراهنة، فتظل أولوية العدالة على الحماية مؤجلة حتى إشعار آخر.