الحبيب الأسود يكتب:
طرابلس بين ميليشيات الرئيس وميليشيات الوزير
لرئيس الرئاسي ميليشياته التي يتحصن بها ضد وزير الداخلية، ولوزير الداخلية ميليشياته التي يستقوي بها على رئيس الرئاسي.
رئيس الرئاسي فايز السراج ابن أسرة طرابلسية عريقة تنحدر من جذور تركية، وفق مذكرات والده مصطفى السراج، أحد السياسيين الذين نشطوا في حزب المؤتمر الوطني بزعامة بشير السعداوي، واليوم تقف إلى جانبه ميليشيات العاصمة وعلى رأسها قوة حماية طرابلس.
وبالمقابل فإن وزير الداخلية المفوض فتحي باشاغا، المنحدر بدوره من جذور تركية، هو اليوم واجهة مصراتة في الصراع على السلطة والثروة، وبالتالي فإن ميليشيات مدينته مندفعة بقوة لنصرته، باستثناء قلة تراهن على غيره، وخاصة على أحمد معيتيق، نائب رئيس الرئاسي، الذي كشفت الأحداث الأخيرة عن عمق الأزمة بينه وبين باشاغا.
تكفي الإشارة هنا إلى أن معيتيق، ورغم أنه كان قبل أسابيع قد دعا إلى الخروج للتظاهر ضد فساد السراج وزمرته، إلا أنه وقف إلى جانبه الجمعة الماضي في إقرار توقيف باشاغا عن العمل كوزير للداخلية وإحالته للتحقيق.
ما حدث خلال الأيام القليلة الماضية بطرابلس يؤكد أن هناك خللا ما ليس في الداخل الليبي، ولكن في الخارج الذي يمارس وصايته عليه، وإلا كيف يصر العالم وخاصة دول الغرب على أن لا شرعية إلا لحكومة الميليشيات والمرتزقة، هذه التي نهبت قوت شعبها، وحرمت مواطنيها من أبسط حقوقهم، واستعملت الميليشيات التكفيرية والجهوية والانتهازية للإبقاء على حكم لا يدور إلا في فلك الفساد، وجلبت الغزاة الأتراك وفتحت أمامهم أبواب البلاد، واستأجرت بنادق المرتزقة لتحصين نفسها من الجيش والشعب.
فشل السراج، المهندس المدني الذي جيء به لرئاسة المجلس الرئاسي وفق اتفاق الصخيرات المبرم في ديسمبر 2015، في أن يصنع لنفسه زعامة حقيقية، وفي أن يكون جديرا بالكرسي الذي قادته إليه الصدفة، ولم يحقق شيئا مما أوكل إليه من مهام، ولم ينتصر لمطالب الناس.
تراجع السراج عن كل التزاماته ولم يف بوعوده في باريس وباليرمو وأبوظبي، وخضع بالكامل لمراكز النفوذ، واستسلم لمصالح المقربين منه، واعتمد على أمراء الحرب وقادة الميليشيات، فكان أن جعل من نفسه أداتهم لتكريس شرعية السلاح المنفلت والانفلات من العقاب، فتح المجال للفساد بشكل غير مسبوق، وأعطى للإخوان المجال واسعا للتغلغل في مفاصل الدولة وخاصة في البنك المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط وشركات الاستثمارات والاتصالات وغيرها، وجعل من فارق سعر العملة الأجنبية مغارة علي بابا لتكديس المال الفاسد.
مع تقدم الجيش إلى وسط طرابلس، وجد السراج نفسه في عزلة إقليمية ودولية، فاتجه إلى تركيا وأمضى في نوفمبر الماضي على مذكرتي تفاهم كانتا طريق أردوغان لاحتلال غرب ليبيا ونشر المرتزقة والسيطرة على القواعد الجوية والبحرية، ليدخل بذلك التاريخ من باب من فتحوا أوطانهم للغرباء. وليصبح لدى الليبيين رئيس منبوذ ومرفوض وموصوم بما يحول دون أن يكون له أمل في مستقبل سياسي.
من بين الاختلافات الواضحة بين السراج وباشاغا أن الأول مدني يحاول أن يحصن دوره السياسي بالميليشيات والثاني عسكري تحول إلى ميليشياوي يطمح إلى الحكم بمختلف الوسائل
بالمقابل هناك فتحي باشاغا، ضابط الطيران الذي انشق عن النظام في 2011 وشكل ميليشيا مسلحة، وكان رئيس قسم جمع الإحداثيات وتقديمها للناتو، ونشط في مجلس شورى مصراتة في العام 2012، كما كان من عرابي عملية فجر ليبيا الانقلابية في العام 2014، وهي العملية التي خطط لها ودفع إليها الإسلام السياسي بعد فشله في الانتخابات، وتبنتها قطر وتركيا، وكانت السبب في الوضع المأساوي الذي وصلت إليه البلاد، ورفض آنذاك الالتحاق بمجلس النواب كعضو منتخب مع جملة نواب مصراتة، وكلفه السراج في أكتوبر 2018 بمهمة وزير مفوض للداخلية في حكومة الأمر الواقع بهدف تحييد ميليشيات مدينته من صراعها على النفوذ في طرابلس.
بدا باشاغا أخطر مما كان يعتقد السراج، فقد تحول بالفعل إلى رجل قطر وتركيا الأول، وارتبط بعلاقات قوية مع المخابرات البريطانية والأميركية، وقدم نفسه لواشنطن على أنه القادر على تحقيق الترتيبات الأمنية وتفكيك الميليشيات وبناء مؤسسة أمنية وعسكرية قوية، وتظاهر بحرصه على المصالحة الوطنية وعلى مقاومة الفساد، وعندما انتفض الشارع منذ أيام انحاز إليه ولو بالكلمات والبيانات، وقال إن هدفه هو تثبيت قيم الدولة المدنية الديمقراطية.
يرفض أهالي طرابلس وترفض ميليشياتها هيمنة ميليشيات مصراتة على مدينتهم، لكن لا أحد يستطيع منعها من ذلك، فوزير الداخلية نفسه رجل ميليشياوي وصاحب تجربة في هذا المجال، وهو إلى جانب ذلك مدعوم من تنظيم الإخوان الذي ينحدر أغلب قادته من مصراتة، وهناك لدى الأتراك حدب خاص على تلك المدينة التي يعتبرونها امتدادا للتراث العثماني، وعاصمة لمن وصفهم أردوغان بأتراك ليبيا، لكن أهالي العاصمة لا يجدون في السراج زعيما يمكن التعويل عليه، وهو الذي فشل في إثبات جدارته بالحكم وحرمهم من أبسط حقوقهم في الخدمات الأساسية قبل أن يفتح باب مدينتهم للغزاة والمرتزقة.
في الطرف الآخر، ترى مصراتة في باشاغا زعيما يمكن التعويل عليه لافتكاك السلطة في طرابلس، فالمدينة المدججة بالسلاح والتي تعتبر عاصمة المال والأعمال في ليبيا، كانت عين نخبتها منذ 2011 على الحكم والبنك المركزي والثروة، وهي لا تخفي ذلك، وتعتبره حقا لا تراجع عنه، وكانت مستعدة على الدوام للتعامل مع كل القوى الخارجية لتأكيد جدارتها بقيادة ليبيا، مقدمة نفسها على أنها مدينة العلم والثقافة والصناعة والتجارة والثورة والتنوع الثقافي والتسامح والتحضّر والقوة.
نجح باشاغا في الترويج لهذه الفكرة، واستعان في ذلك بجماعات الضغط في عواصم عدة، ووصل به الأمر إلى دعوة عراب فبراير، برنارد هنري ليفي، إلى البلاد للاستفادة من نفوذه الإعلامي وعلاقاته القوية مع إسرائيل واللوبيات النشطة على أكثر من صعيد.
من بين الاختلافات الواضحة بين السراج وباشاغا أن الأول مدني، يحاول أن يحصّن دوره السياسي بالميليشيات، والثاني عسكري تحول إلى ميليشياوي يطمح إلى الحكم بمختلف الوسائل. وكذلك أن الأول أحرق جميع أوراقه داخليا وخارجيا، والثاني استطاع أن يكوّن لنفسه تحالفات مهمة ويقدم نفسه على أنه قادر على تحقيق ما فشل فيه السراج.
يبقى في الأخير أن أغلب ميليشيات طرابلس ترفض باشاغا القادم من مصراتة، وميليشيات مصراتة ترفض السراج القابع في مكتبه بطرابلس، بينما الأغلبية الساحقة من الشعب الليبي ترفض السراج وباشاغا معا، وتحلم بحل الميليشيات، وحماية الوطن ومقدراته من اللصوص والفاسدين والمتدثرين بشعارات الدين والثورة والجهوية والتبعية للأجنبي.