الحبيب الأسود يكتب:

الإمارات تحرر خطاها نحو أهدافها الكبرى بالسلام

يتهم العرب إسرائيل بالوقوف وراء كل مشاكلهم وقضاياهم ومآسيهم، يقولون إنها المسؤولة عن فشل دولهم على مختلف الصعد سواء كانت سياسية أو اقتصادية واجتماعية أو حضارية، ويؤكدون أنها هي التي أطاحت بمشاريعهم الوحدوية، كما قضت على طموحاتهم العلمية بالتصفيات الجسدية، وكانت وراء تدمير العراق وسوريا وليبيا وتقسيم السودان، وبث الفرقة بين الأشقاء.

إسرائيل هي التي حرمتهم من الاستفادة من ثرواتهم، وغير ذلك من الاتهامات التي لا حدود لها، والتي تصب في نتيجة واحدة يراد لها أن تصل إلى الجميع وهي أن لا وحدة ولا حرية ولا تقدم ولا ديمقراطية ولا عدالة اجتماعية ولا بحث علميا ولا نهضة تكنولوجية ولا تنمية اقتصادية طالما أن إسرائيل موجودة.

لنعتبر أن كل هذا صحيح، ثم نسأل أنفسنا عن الحل؟

إن من يعرف معنى النجاح والتميز لا يمكن أن يتراجع إلى الوراء ولا يقبل أن تقف في وجهه أي عراقيل، بل ولا يحتمل الخضوع للنفاق السياسي أو إخضاع مصالحه لأوهام الأيديولوجيات المتهالكة

إن معاهدة السلام المعلنة بين دولة الإمارات وإسرائيل ألقت أكثر من حجر في بركة العقل العربي المسترخي لمسلّماته التي بقيت على حالها منذ أربعينات وخمسينات القرن الماضي، فالشعارات الخادعة والوعود الزائفة والخطابات المشحونة بالأوهام لا تزال هي ذاتها، رغم الزلازل التي مرت بها المنطقة والتي كان من المفروض أن يستغلها العرب لإعادة تقييم واقعهم بالشكل الذي يخدم قضاياهم.

كانت نكسة 1967 كافية لتجعلنا نعيد النظر في التعامل مع الواقع، كان علينا أن ندرك أن إسرائيل ليست مجرد دولة صغيرة في الشرق الأوسط تأسست على أساطير قديمة في أرض عربية، وإنما هي واجهة للنظام الرأسمالي الليبرالي الغربي في منطقتنا، وهي تحظى بولاء الأغلبية الساحقة من يهود العالم الذين ورغم أن عددهم الجملي لا يتجاوز 16 مليون نسمة، إلا أنهم أصحاب تأثير بالغ في مراكز النفوذ العلمي والفكري والمالي والاقتصادي والسياسي.

عدد اليهود في الولايات المتحدة هو نفس عددهم في إسرائيل، ولديهم تأثير نوعي في مختلف المجالات يمنحهم قوة النفوذ القادر من هناك على تغيير موازين القوى في منطقتنا.

على كل من يسعى لخدمة قضاياه ومشاريعه في الولايات المتحدة أن يمر باللوبي اليهودي المسيطر على مقاليد القرار، وهذا ما أكدته دراسة لستيفين والت وجون مير شايمر بعنوان “اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية” جاء فيها “بالإضافة إلى التأثير المباشر في سياسة الحكومة، يناضل اللوبي لتشكيل مفاهيم وآراء العامة بشأن إسرائيل والشرق الأوسط. متفاديا أي نقاش علني لقضايا تتضمن إسرائيل، لأن النقاش العلني يجعل الأميركيين يتساءلون عن مستوى الدعم الذي يوفرونه حاليا. وتبعا لذلك، تعمل المنظمات الموالية لإسرائيل جاهدة للتأثير في الإعلام، وبيوت الخبرة، والأوساط الأكاديمية، لأن هذه المؤسسات بالغة الأهمية في صياغة الرأي العام”.

نسبة اليهود لا تزيد على 0.2 في المئة من سكان العالم، ومع ذلك فقد فازت عقولهم بـ20 في المئة من جوائز نوبل منذ تأسيسها، وحتى العام 2018 فاز العلماء اليهود بنسبة 37 في المئة من جوائز نوبل في الاقتصاد، و25 في المئة في الطب، و26.2 في المئة في الفيزياء، و13.9 في المئة في الكيمياء، و13.3 في المئة في الأدب و8.5 في المئة من جوائز السلام الفردية.

أما المسلمون الذين يشكلون ما يزيد عن 23 في المئة من تعداد سكّان العالم، فقد فاز منهم بالجائزة 12 شخصا أي حوالي 1.4 في المئة من مجمل جوائز نوبل.

كان على العرب أن ينتبهوا إلى أن نصر أكتوبر 1973 لم يكتمل إلا باتفاق السلام الذي أبرمه الرئيس الراحل أنور السادات مع مناحيم بيغين، والذي رفضه العرب وقاطعوا مصر بسببه، وخوّنوا رئيسها، لكن اليوم يتبين أن السادات سبق عصره بتحرير أرض بلاده من الاحتلال، وأن الذين قتلوه في 6 أكتوبر 1981، هم امتداد لمشروع إرهابي قتل من العرب والمسلمين خلال السنوات الماضية أضعافا مضاعفة من ضحايا الصراع العربي الإسرائيلي.

أدركت الإمارات أن الصراع لن ينتهي خلال أعوام أو عقود، وأن أوضاع العرب الراهنة وثقافتهم السائدة لن تجمعاهم على هدف واحد، وأن مخاطر الإرهاب والأطماع الإيرانية والتركية والمؤامرات القطرية ومشاريع الإسلام السياسي التي تجد لها داعمين من بعض المحسوبين على العروبة، هي أخطر على المنطقة ودولها من إسرائيل، وأن الفلسطينيين أنفسهم ما عادوا على قلب رجل واحد، فما يدور في الإقليم من مؤامرات وأطماع وصراعات وتصدعات وأزمات انعكس على وضعهم الداخلي وتسبب لهم في انقسامات حادة أضعفت حيلتهم وأنهكت قضيتهم.

من يتابع مشروع النقلة الحضارية الكبرى التي تشهدها الإمارات، يدرك أنها باتت تتحرك في بعد مختلف عن بقية الدول العربية، وهي اليوم تركز اهتمامها على الطاقة النووية السلمية وغزو الفضاء والذكاء الاصطناعي والبحث العلمي والتكنولوجيات الحديثة وتتبنى مفاهيم المعرفة والتنوير والتسامح والاندماج الإنساني العابر للحدود والحواجز.

معاهدة السلام المعلنة بين دولة الإمارات وإسرائيل ألقت أكثر من حجر في بركة العقل العربي المسترخي لمسلّماته التي بقيت على حالها منذ أربعينات وخمسينات القرن الماضي

ولأنها صاحبة مشروع تطمح من خلاله إلى التموقع في صف الدول الأقوى والأنجع والأنجح عالميا، ولأنها تدرك قوة إسرائيل العلمية والتقنية والاستراتيجية وقدرات اليهود في العالم ودورهم في تشكيل القرار السياسي والمالي والاقتصادي وفي المنجزات المذهلة للعقل الإنساني، اتجهت الإمارات لعقد اتفاقية السلام التي ستخدم مصالحها، نعم هناك براغماتية، ولكن من الأفضل أن نسميها بالعقلانية التي لا تقبل أن تدفع فاتورة العجز العربي، ولا أن تتحمل نصيبا آخر من خسائر العرب المتراكمة منذ 70 عاما باسم الصراع مع إسرائيل.

إن من يعرف معنى النجاح والتميز لا يمكن أن يتراجع إلى الوراء ولا يقبل أن تقف في وجهه أي عراقيل، بل ولا يحتمل الخضوع للنفاق السياسي أو إخضاع مصالحه لأوهام الأيديولوجيات المتهالكة، فقط هناك رؤية تخترق الحواجز وتنتصر لمشروعها، مهما كانت ردود فعل الواقفين على الإطلال.

وعندما تبادر الإمارات اليوم بالسلام والتطبيع إنما تحرر خطاها نهائيا نحو أهدافها الكبرى في عالم اليوم والمستقبل، فهي ليست من الدول التي تسير في طريق الفشل وتبرر ذلك بالصراع مع إسرائيل، كما أن تحرير الخطى قد يجعلها أقرب لنصرة الفلسطينيين، خصوصا إذا كانت لهم الجرأة في نصرة أنفسهم وتجاوز انقساماتهم وصراعاتهم المستدامة.