صالح القلاب يكتب:

عدوان تركيا على كردستان عدوان على السيادة العراقية!

ربما أن المتابعين للمسألة الكردية في العراق قد لاحظوا أن رئيس وزراء كردستان العراقية مسرور بارزاني قد استخدم في تصريح «تلفزيوني» ضد التدخل التركي في الإقليم الكردي مصطلح الحدود العراقية الذي كرره مرات عدة خلافاً لما جرت العادة عليه خلال سنوات طويلة، كانت بدأت في عهد جده مصطفى بارزاني، واستمرت لفترة طويلة شهدت صراعاً عسكرياً وسياسياً خلال النظام الملكي قبل عام 1958 وفي مراحل الانقلابات العسكرية التي بقيت متلاحقة ومتواصلة حتى عام 2003، حيث أسقط «الأميركيون» نظام صدام حسين (البعثي) وتم إعدام صاحبه «شنقاً» في فجر عيد الأضحى يوم السبت في الثلاثين من ديسمبر (كانون الأول) في عام 2006.
والمعروف أن ما حال دون أن تكون للأكراد دولتهم، إنْ الإقليمية أو القومية، أنهم بقوا موزعين بعد انهيار الدولة العثمانية وقبل ذلك بين عدد من دول هذه المنطقة وكانت أكثريتهم ولا تزال، نحو ثلاثين مليوناً، في تركيا التي ينتمي إليها حزب العمال الكردستاني (التركي) برئاسة عبد الله أوجلان، المقيم منذ عام 1994 في أحد السجون التركية، والذي كان تأسس في دمشق بدعم من الرئيس السوري السابق حافظ الأسد وبمساندة سوفياتية للضغط على تركيا التي كانت ولا تزال عضواً فاعلاً في حلف شمال الأطلسي.
ولعل ما تجدر الإشارة إليه هنا، هو أن أول دولة أُنشئت للأكراد كانت «جمهورية مهاباد» في عام 1946 في أقصى شمال غربي إيران برئاسة قاضي محمد الذي أعدم لاحقاً وبزعامة الملا مصطفى بارزاني (والد مسعود بارزاني) الذي بعد انهيار هذه الدولة في 3 مارس (آذار) 1947 التجأ إلى الاتحاد السوفياتي، وبقي هناك هو وقواته لسنوات طويلة، ثم عاد إلى العراق واستأنف «نضاله» انطلاقاً من إقليم كردستان العراقي ولسنوات متقلبة طويلة وإلى أن توفي في عام 1979، حيث إنه كان قد بدأ كفاحه بمشاركة أخيه الأكبر أحمد في قيادة الحركة الثورية الكردية التي خلال كل هذه السنوات الطويلة كانت قد مرّت بتقلبات كثيرة.
كانت هذه الدويلة القصيرة العمر - دويلة «مهاباد» - قد ظهرت ككيان نتيجة أزمة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وكضغط على شاه إيران محمد رضا بهلوي، لكن ما أنْ انسحبت القوات السوفياتية من الأراضي الإيرانية حتى أسقط الإيرانيون هذه الجمهورية بعد أحد عشر شهراً من قيامها، وتم إعدام رئيسها قاضي محمد، حيث انسحب مصطفى بارزاني مع مجموعة من مقاتليه إلى الاتحاد السوفياتي ولم يعد منه إلى العراق إلا بعد فترة طويلة، ثم استقر في كردستان العراقية.
إن مشكلة الأكراد هي أنهم بعد انهيار الدولة العثمانية قد أصبحوا موزعين بين معظم دول هذه المنطقة؛ فهناك أكراد تركيا الذين ينتمي إليهم حزب العمال الكردستاني (التركي) بقيادة عبد الله أوجلان الذي مع أنه، كما يقال، قد تخلى عن هذا الحزب الذي ازداد تطرفاً و«إرهاباً»، إلا أنه لا يزال نزيل أحد السجون التركية، وهناك أكراد العراق الذين يشكّلون طليعة «الأمة الكردية»، وهناك أيضاً أكراد إيران والأكراد الموزعون في عدد من الدول، من بينها الدول العربية.
وهنا، ومع أن صراع الأكراد العراقيين مع الأنظمة العراقية المتعاقبة، التي كانت مرت ببغداد، وبخاصة بعد الإطاحة بالنظام الملكي في عهد فيصل الثاني الذي كان ملكاً للأردن أيضاً، على اعتبار أنه كان «رئيساً» للاتحاد العراقي - الأردني، لم يتوقف إلا لفترات محدودة فإنهم لم يلجأوا إطلاقاً إلى الإرهاب والعمليات الإرهابية، وأن الملا مصطفى بارزاني كان يرفض هذه الأساليب، وذلك مع أن بعض الأنظمة العراقية قد لجأت إليها ضدهم، وأن صدام حسين كان قد أرسل وفداً تفاوضياً كان أحد أعضائه «ملغّماً» وكاد بتفجير نفسه يقتل بارزاني الذي عندما أشار إليه أحد قادة حزبه بضرورة الرد في بغداد قال: أنا لا أقتل العراقيين... أنا أرفض هذه الأساليب ولن أكون قاتلاً كهؤلاء القتلة!
وحقيقة، وهذه مسألة معروفة ومؤكدة، أن الأكراد حتى عندما كان يشتد الضغط العسكري عليهم لم يلجأوا إلى أي ردٍّ «إرهابي»... إنهم كانوا شجعاناً في الدفاع عن «إقليمهم» وعن شعبهم وعن أطفالهم، لكنهم لم يقوموا بأي عمليات إرهابية ضد العراقيين خارج أي مواجهة عسكرية... إنهم، وكما أسلفت الإشارة إليه، كانوا وما زالوا ضد الإرهاب، وإنهم عندما حاول تنظيم «داعش» إقناعهم بإعطائه قواعد عسكرية في كردستان لمواجهة النظام في بغداد رفضوا ذلك رفضاً مطلقاً، بل إنهم قد واجهوا هذا التنظيم الإرهابي وطردوه من مناطقهم ومن أي مناطق عراقية محادة.
ثمّ، وإن ما لا يعرفه البعض هو أن الأكراد كانوا السبّاقين في رفض التحالف الثلاثي الأخير: «التركي - الإيراني - الروسي»، وذلك مع أن الروس في زمن الاتحاد السوفياتي وفي هذا الزمن أيضاً بقوا يتعاطفون معهم، وبقوا يؤيدون كفاحهم حتى في المراحل والفترات التي كان فيها النظام العراقي قريباً منهم، وكان الحزب الشيوعي العراقي أحد الأحزاب المشاركة في الحكم بصورة فعلية، لكن لفترة قصيرة؛ إذْ ما لبث النظام الحاكم أن انقلب عليهم وعلى غيرهم، ورفع أعواد المشانق وفتح السجون في بغداد وفي كل المحافظات العراقية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الدول المجاورة للعراق والتي لـ«الأكراد» وجود فعلي فيها كانت أكثر رفضاً لقيام دولة كردية في إقليم كردستان العراقية كإيران وتركيا وسوريا، وهذه مسألة يعرفها «كاك» مسعود بارزاني وكان يعرفها والده الملا مصطفى ويعرفها جلال طالباني الذي كان على علاقة وثيقة مع الإيرانيين ومع النظام السوري وفي كل العهود القريبة والبعيدة.
ثم، وإنّ المعروف أنّ الحكومة العراقية الحالية المكبلة بالقيود الإيرانية، لم تستجب لمناشدات مسرور بارزاني بوضع حدٍّ لاختراق قوات رجب طيب إردوغان لـ«حدود كردستان» والتي هي حدود عربية أيضاً، وإنه كان على العرب «القادرين» أن يتصدوا ولو إعلامياً و«دبلوماسياً» لاختراق تركيا لهذه الحدود كاختراقها الحدود السورية والحدود الليبية أيضاً... والتي تحتل لواء الإسكندرون كما تحتل الآن بعض مناطق إقليم كردستان العراقية.
لقد وصل التجاوز التركي في عهد رجب طيب إردوغان كل ما يمكن احتماله، وهكذا فإنه لا بد من أخذ هذه المسألة بكل جدية، وإنّ المؤكد أنّ الاعتداء على سيادة إقليم كردستان اعتداء على سيادة العراق كله، واعتداء على العرب أيضاً؛ فهذا الإقليم عراقي وحدوده عراقية كما قال «كاك» مسرور بارزاني، وكرر هذا القومي مراراً مما يعني أن هجوم الرئيس التركي على العراق هو هجومٌ على الأمة العربية كلها، وذلك مع التأكيد على أن إقليم كردستان هو إقليم كردي، وهذا مع أنّ رئيس العراق الحالي هو الكردي برهم صالح، وإنه على العرب أن يكونوا مع هؤلاء الأشقاء، وأن يعترفوا لهم حتى بدولة كردية تكون «شقيقة» للدولة العراقية وللدول العربية كلها، وبخاصة أن هناك كل هذا التاريخ المشترك الذي لعب فيه الأشقاء الأكراد أدواراً رئيسية وفعلية... إنْ لم تسجل بعضها كتب التاريخ فإنها معروفة وتناقلتها الأجيال المتعاقبة.
ثم، وفي النهاية وما دام أن رجب طيب إردوغان قد بادر، بعد انفراده بالحكم، إلى التوسع شرقاً وغرباً، وأعلن أنه يريد أن يستعيد «أمجاد» الدولة العثمانية؛ فإنه، وكما هو واضح، سيدفع تركيا إلى أن تكتوي بجمر حرب مدمرة قريبة وأن الشعب التركي، إنْ هو لن يضع حداً لهذا المصاب بداء العظمة؛ فإنه سيدفع الثمن غالياً كما دفع ثمن نزوات سابقة كثيرة!