د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):
النكتة السياسية في اليمن !!
عندما تطحن الحياة الشعوب وتشتد أوجاع الناس بسبب الحروب ويكتوون بنارها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا حتى تصبح عصية على الفهم متقلبة كالطقس فتارة عاصفة وأخرى ممطرة و يكتسح طوفانها كل شيء أمامه.. وفي اليمن ينام اليمنيون على قصف المدافع فوق بيوتهم ليلا..ويستيقظون صباحا على أزيز الرصاص ودوي القنابل ويقفون حائرون وهم لا يعلمون هل سيموتون تحت ركام بيوتهم أم سيساقون قسرا إلى ساحات الموت ؟؟ أم إلى أقبية السجون وغرف التعذيب؟؟!! ولتخفيف معاناتهم يلجئون إلى تأليف النكات والقصص الطريفة المضحكة لكي يخففوا من معاناتهم ولكي ينسوا أوجاعهم من بطش المعتقلات وغرف التعذيب ..فيصنعون النكتة التي تندرج ضمن إطار الأدب السردي ..وهي تعبر عن رد فعل المواطن لأعمال مرفوضة ..وسرعان ما يتناقلها الناس شفاهة ..ويحكيها الظرفاء الذين يتمتعون بحس الفكاهة والدعابة اللاذعة في مجالسهم سرا وعلانية حسب الجو الأمني وخلوه من جواسيس السلطة !!
و أكدت د.ألفت الدبعي أستاذة علم الاجتماع السياسي بجامعة تعز:
أن في النكتة السياسية "تنفيسا ونوعا من الحرب النفسية والإعلامية تمثل وعيا سياسيا من نوع جديد، كان له تأثير كبير في وعي الناس، وألغت حالة التزييف التي يمارسها أي طرف سياسي ضد آخر، ولسهولة انتشارها وتوافقها مع نفسية اليمنيين استطاعت أن تشكل الوعي بطريقة أسهل".
ماض "ساخر" لحكام اليمن:
ما إن يسقط رئيس يمني، ويصعد آخر، حتى تعود الذكريات باليمنيين إلى تاريخ بداية الرؤساء الذين تداولوا حُكم اليمن منذ عهد الإمام يحيى بن حميد الدين في الأربعينيات، حيث يبدع اليمنيون في صنع القفشات الساخرة على الرؤساء ويجعلونهم مثاراً للسخرية والتندر في مجالس القات ومواقع التواصل الاجتماعي.
رؤساء مضحكون :
لعل من المناسب أن نعيد شريط الذكريات إلى الوراء لنستعرض بعض النكت الساخرة التي كان يتفنن بها بعض المواطنين والسياسيين اليمنيين على حكامهم، ومن الواضح أن السخرية كانت سلاحاً شعبياً لليمنيين في مواجهة التنكيد، ومواكبة للأوضاع السياسية والمعيشية والأمنية التي كان يعيشها البلد.
ومن سوء حظ اليمنيين أن أغلب الرؤساء الذين صعدوا إلى السلطة كانوا من أقل الناس تعليماً، وأكثرهم من طبقات العسكريين الأكثر بؤساً، وهو الأمر الذي زاد من حالة التندر والسخرية لدى الأجيال المتعاقبة والتي كانت حاضرة في زمن أولئك الحكام وحسب الكاتب محمد أنعم مؤلف كتاب "النكتة السياسية في اليمن" فإن النكتة السياسية الناقدة في عهد الإمام أحمد حميد الدين (84-1962م) كانت هي الأغزر والأكثر حضوراً في انتقاد الأوضاع التي كانت ترزح في ظلها اليمن فترة حكمه، ولعل ذلك يعود إلى ما عرف عن الإمام أحمد من ممارسة الطغيان وقتل رجال الحركة الوطنية وما اتسم عهده من تخلف في مختلف جوانب الحياة.
ويروي كثير من الآباء الذين عاشوا فترة الإمام أحمد حميد الدين، أن الإمام كان يأمر الناس أن "يتقطرنوا" يضعون مادة القطران على وجوههم وأجسادهم للحماية من الجن كما كان يوهمهم الإمام أحمد، وقيل أن الإمام أحمد كان لديه "راديو" وكان يحكي للناس أن لديه جن يتحدثون له عبر هذه "الراديو" بما يفعل الناس وكان الناس من شدة جهلهم يصدقونه!!.
وفي عهد الإمام يحيى، والد الإمام أحمد، سرت شائعة أن من جلب رأس "قرد"، سيتم إعفاءه من دفع الزكاة، وكانت القرود حينها تنزل من الجبال وتأكل المحاصيل ما يسبب خسائر فادحة لخزينة الدولة, فكان من الدهاء اختراع هذه الشائعة التي ما إن سمعها الناس حتى سارعوا الى الجبال لصيد القرود وحمل رؤوسها لكي يحظوا بالإعفاء من الزكاة فلم يتركوا قرداً واحداً في الجبال!!.
ومن ضمن الرؤساء اليمنيين الذين كانوا عنواناً للضحك والسخرية، المشير عبدالله السلال- أول رئيس للجمهورية اليمنية بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م – حيث يروى أن السلال قبل أن يكون رئيسياً، كان في سجن نافع الرهيب في محافظة حجة وكان ينتظر أن يُعدم في أي لحظة، وفي أحد الأيام وصله خبر أن الإمام أحمد حميد الدين أمر بهدم منزله في صنعاء، فقال السلال: جزاهم الله خيراً فهم ما هدموه إلا ليبنوه علي الطراز الحديث.
ويقال أن صالح عندما اشتدت عليه حركة الثوار في عام 2011م، استدعى رئيس وكالة سبأ الحكومية طارق الشامي وقال له: ما هي أخر الأخبار؟ فرد عليه طارق: هؤلاء جننوا بنا "بالفيس بوك" وقناة "سهيل".
فقال له صالح: أرسل أربعة أطقم يدوهم إلى هنا، وأنا أوريهم شغلهم!!
ومن المضحكات أيضاً، أن صالح حصل على تمثال قديم هدية، فأرسل التمثال لرئيس المخابرات ليتحقق من قيمته. فرد عليه رئيس المخابرات: تأكدنا يا سيدي أنه أثري. فقال له صالح كيف عرفت؟ فقال: أعترف بنفسه يا سيدي!.
أما الرئيس المستقيل عبدربه منصور هادي، فقد تندر عليه الناشطون في صفحات التواصل الاجتماعي، واستنكروا عدم اعتراضه على تمدد الحوثيين في المحافظات حتى وصلوا إلى حصاره في منزله.
وعلق آخر ساخراً "نحن اليمنيين شعب ميت لكن عايش عناد، والدليل على ذلك أن من يحكمنا انقلب على نفسه والآن عايش تحت الإقامة الجبرية".
بينما كتب أحد شباب الثورة "إننا قمنا بثورة شبابية شعبية سلمية من أنجح ثورات الربيع العربي لكن نسينا نسوي لها حفظ".!!
ويرى الأستاذ محمد أنعم مؤلف كتاب "النكتة السياسية في اليمن" إن النكتة والسخرية عكست نضوجاً فكرياً وسياسياً تميز بها قائلوها، بالإضافة إلى امتلاكهم لقدرات مكنتهم من توظيف النكتة توظيفاً رائعاً كوسيلة من وسائل مواجهة ومقاومة سياسة الأئمة ويرى أنعم، أن النكتة السياسية في اليمن تتميز بأنها ترتبط بالزمان والمكان وبهوية قائلها. ولهذا تعرف اسم صانعها ومن هو وزمان ومكان ومناسبة قوله للنكتة، التي هي ليست مجرد تندر عام، ولا من صنع مخابراتي إنما هي نتاج لمواقف عبر عنها أصحابها بسخرية وشجاعة في وجه الحكام داخل بلاط الحاكم.
كما أن النكتة السياسية اليمنية لم تكن مجرد فكاهات وطرائف تقال لإضحاك الحاكم وحاشيته أو لتلطيف مجلسه، بل إنها كانت أشبه بانفجارات مدوية تعكس موقف قائليها وانتقادهم بأسلوب ساخر وعلني لنظام الحكم وأخطائه - كما كانت النكتة معبرة عن نبض وهم المواطن.وخلاصة القول :
إن السخرية التي وصفت بأنها أعلى درجات الفلسفة، ووصفت بالكوميديا السوداء والاحتجاج الناعم والتحايل على المفارقات واللعب مع الوجع، ستبقى لغة المسحوقين و"الغلابة" وصديقة الشعوب المقهورة، ومهما اتخذت من أشكال اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية، تبقى في جوهرها لغة سياسية سلمية ومؤثرة تحرض ابتسامتك المبللة بالدموع.
د.علوي عمر بن فريد