الحبيب الأسود يكتب:
بوزنيقة وتكريس الانقسام الوهمي في ليبيا
انتهت الجولة الثانية من الحوار الليبي في منتجع بوزنيقة المغربي، بنتائج معقولة، بالنسبة لمن يضعونها في إطار المنتظر من ترجمة المادة الـ15 من اتفاق الصخيرات، لكن المشاكل الحقيقية لم تظهر بعد، وعند ظهورها ستثبت للداخل والخارج أن جميع محاولات الترقيع في ثوب الثقة المهترئ غير مجدية ولا يمكن التعويل عليها، وأن جلسات الحوار المعتمدة بالشكل الحالي ليست أكثر من حبات بانادول الهدف منها تأجيل المواجهة مع الألم.
تنص المادة الـ15 على أن مجلس النواب يتشاور مع مجلس الدولة الاستشاري بهدف التوصل إلى توافق حول شاغلي المناصب السيادية، هذه المناصب سبعة وهي: محافظ مصرف ليبيا المركزي، ورئيس ديوان المحاسبة، ورئيس جهاز الرقابة الإدارية، ورئيس جهاز مكافحة الفساد، ورئيس وأعضاء المفوضية العليا للانتخابات، ورئيس المحكمة العليا، والنائب العام. وتنص أيضا على أن تعيين وإعفاء شاغلي المناصب السيادية يتطلبان موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب.
هذه المادة سبق أن تم فرضها في اتفاق الصخيرات الموقع في 17 ديسمبر 2015 ضمن مخطط خبيث الغاية منه جعل أي تعيين في المناصب السياسية رهينة لموافقة الإخوان ممثلين في مجلس الدولة الذي تم تشكيله فقط لجمع فلول المؤتمر الوطني العام المنحل الذي حكم البلاد منذ العام 2012، ومن المفروض أنه فقد شرعيته وجميع صلاحياته بعد الإعلان عن نتائج انتخابات 2014.
لكن الانقلاب الإخواني على تلك النتائج، من خلال منظومة فجر ليبيا المدعومة ليس فقط من قبل قطر وتركيا وإنما من جهات وأطراف أخرى إقليمية ودولية تعمل على فرض مشروع الإسلام السياسي، كان دافعا لتبرير إعادة تدوير الإسلاميين في مجلس الدولة الذي يبدو في ظاهره استشاريا، بينما تحول لدى اللاعبين بالبيضة والحجر في الأزمة الليبية إلى الفاعل التشريعي الحقيقي، تزامنا مع حالة العجز التي يعاني منها مجلس النواب المنتخب والمنقسم على نفسه، والذي سيواجه مصيره المحتوم خلال الأيام والأسابيع القادمة، عندما يصطدم بالفقرة الثانية من المادة الـ15 التي تنص على أنه “إثر تنفيذ الفقرة الأولى من هذه المادة، فإن تعيين وإعفاء شاغلي المناصب القيادية للوظائف السيادية المُبينة في الفقرة السابقة يتطلبان موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب”.
المطلوب إذن هو أن يحظى الاتفاق بتزكية من ثلثي أعضاء البرلمان المفترض أن عددهم الحقيقي هو 188 نائبا، ولكن حالة التشظي التي أصابته بالمقاطعة من قبل عشرات الأعضاء وظهور مجلس نواب مواز في طرابلس، سيجعلانه عاجزا حتى عن جمع ثلث النواب تحت سقف قاعة في طبرق أو بنغازي.
أغلب من ينتمون إلى هذا الثلث يبدو غير موافقين على ما يجرى من استسلام لمشروع الإخوان، فمنهم من يعتبر أن ما جرى في بوزنيقة يدخل في إطار لعبة هدفها تحييد دور قيادة الجيش، وإعادة تمكين الإخوان من التحكم في مفاصل الدولة، ومنهم من يرى أن الاتفاق يضرب وحدة البلاد ويعود بها إلى التقسيم المحلي ضمن مخطط الفدرلة، التي ألغتها تعديلات الدستور في العام 1963 عندما كانت ليبيا خاضعة للنظام الملكي، وهو ما يعني أن التعيينات ستكون وفق محاصصة مناطقية بخلفية قبلية، فالاعتماد على منطق جهوي سيدفع نحو نشوب تنافس محموم بين القبائل، حيث ستعتقد كل قبيلة أنها الأجدر بالمنصب، في حين تتم الإطاحة بمبدأ الكفاءة الحقيقية.
هناك مشكلة أخرى، وهي أن مجلس الدولة، وهو بالأساس كيان إخواني، سيتحكم وفق اتفاق بوزنيقة في اختيارات البرلمان للمرشحين للمناصب السيادية، وسيجد الوسائل الكافية لفرض قراراته، وهو ما أبرزه رئيس المجلس خالد المشري، ورئيس حزب العدالة والبناء الذراع السياسية لجماعة الإخوان محمد صوان، عندما أكدا أن لا شيء يخرج عن طوع الجماعة، فكل شيء يجري وفق تخطيطها وهي التي رغم أنها لا تحتكم على أي رصيد شعبي استطاعت أن تتحول إلى الرقم الصعب في المعادلة، ليس فقط بواسطة الدعم الخارجي ونفوذ الميليشيات التي تديرها ولكن أيضا، وهذا الأهم، من خلال قدرتها على استغلال حالات العجز والتشتت والطموحات الفردية لدى الأطراف الأخرى.
علينا أن نضع نصب أعيننا أن رئيس مجلس النواب عقيلة صالح يطمح لرئاسة المجلس الرئاسي القادم، مقابل أن تؤول رئاسة حكومة الوحدة الوطنية لوزير الداخلية المفوض في حكومة الوفاق فتحي باشاغا الحاصل على دعم واشنطن ولندن وأنقرة والدوحة، والذي سيجمع بين يديه مفاتيح السلطة التنفيذية، وإلى حد الآن يبدو ذلك هو الذي سينتج عن الحوار السياسي القادم المقرر تدشينه بعد أيام، والذي سيكون امتدادا لمؤتمر برلين المنعقد في يناير الماضي.
وصول صالح إلى رئاسة الرئاسي هو جزء من مشروعه الذي اتفق عليه مع المشري، وتضمنه إعلان القاهرة في يونيو الماضي، حيث سيتكون المجلس من رئيس ونائبين وفق التقسيم الفيدرالي القديم، على أن يكون رئيسه من إقليم غير الإقليم الذي سيكون منه رئيس الحكومة، وبالتالي فإن رئاسة الرئاسي ستذهب إلى برقة، ورئاسة الحكومة ستذهب إلى طرابلس، في حين سيكون من الطبيعي أن يتم اختيار أحد النواب عن إقليم فزان ليكون رئيسا جديدا للبرلمان.
سيواجه اتفاق بوزنيقة عراقيل عدة منها أن تزكيته لن تتحقق إلا في حالة واحدة وهي تنفيذ الحل السياسي المنتظر إقراره وفق المشاورات القادمة، وتشكيل السلطات الجديدة، وموافقة تركيا وقطر والإخوان على ذلك، وفي حالة عدم حصول الموافقة، فإن البرلمان لن يجتمع بأغلبية الثلثين ولن يزكي الاتفاق، إلا في خيال الواهمين، لأن جزءا مهما من أعضائه يتحركون وفق الأوامر القادمة من الدوحة وأنقرة، وليس وفق الواجب الوطني.
كما أن بعض المسؤولين لن يتخلوا عن مناصبهم، المجلس الأعلى للقضاء قال كلمته ورفض رهن تعيين رئيس المحكمة العليا والنائب العام لمزاج السياسيين، ومصرف ليبيا المركزي يبدو إلى الآن تحت سيطرة تركية معلنة، وقد يتمرد محافظه على الاتفاق، وهو الذي لجأ منذ أيام إلى مجلس النواب الموازي في طرابلس ليقدم إحاطته بدل أن يعترف بقرارات عزله الصادرة منذ سنوات عن مجلس النواب المعترف به دوليا.
يراد لخدعة الصراع بين الجهات أن تهيمن على الوعي الجمعي تمهيدا لمشروع التقسيم، بما يخدم مصالح المتصدرين للقرار السياسي، لكن مشهد التوقيع على اتفاق بوزنيقة يفضح الأكذوبة، فرئيسا وفدي مجلس النواب يوسف العقوري، ومجلس الدولة فوزي العقاب، اللذان وقعا على الاتفاق هما من شرق البلاد، الأول من قبيلة العواقير والثاني من قبيلة الحاسة في شحات، ولو كان الصراع بين الجهات لكان أحدهما من طرابلس والثاني من برقة.
بقطع النظر عن نجاح الاجتماعات، فإن التنفيذ على أرض الواقع لن يتحقق، وذلك لأسباب عدة، أبرزها أن ما تم التوافق عليه كان من أجل عيون أطراف وشخصيات سياسية وليس لوجه الوطن ولا من أجل الشعب الليبي.