محمد نورالدين يكتب:

تركيا وحرب القوقاز

لا ينفصل الصراع المتصل بقضية ناجورنو كاراباخ بين أرمينيا، وأذربيجان، عن مجمل المشهد الإقليمي الواسع الممتد من ليبيا إلى شرق المتوسط، وسوريا، وصولاً إلى القوقاز.

وكانت الشرارة الأولى الجديدة انطلقت في 12 يوليو (تموز) الماضي، عندما اندلعت اشتباكات بين أرمينيا نفسها، وأذربيجان، في منطقة طوفوز بعيداً عن منطقة كاراباخ شمالاً. ومنذ ذلك التاريخ كانت تبدو في الأفق نذر تصعيد سيأتي لاحقاً، إلى أن وقعت الواقعة في 27 سبتمبر (أيلول) الفائت، حيث اندلعت معارك عنيفة براً، وجواً، مع إطلاق صواريخ على امتداد الحدود بين أذربيجان، وكاراباخ، ومع الأراضي التي تحتلها أرمينيا من أذربيجان منذ التسعينات.

وفي اشتباكات طوفوز سالفة الذكر، اقتصرت المعارك على مناوشات حدودية محدودة. لكن في الحرب الحالية التي اندلعت كان المشهد مختلفاً. وبعد قليل جداً من إعلان الحرب بين الطرفين كان الجيش الأذري يتقدم بسرعة في العديد من مناطق كاراباخ، وفي أماكن أخرى. وبدا سير الحرب كما لو انه أُعد مسبقاً بصورة مخطط لها من جانب الجيش الأذري. وهذا على الأرجح صحيح. لكن لماذا؟.

مشكلة القوقاز تنقسم إلى قسمين: واحد متعلق بجمهورية كاراباخ التي أعلنت استقلالها عن أذربيجان في مطلع عام 1992 وهو استقلال لم يعترف به أحد بعدما كانت منطقة حكم ذاتي ضمن أذربيجان بناء على قرار من جوزف ستالين في عام 1923. وترى باكو أن إعلان الاستقلال انتهاك لوحدة الأراضي الأذرية. والثاني هو مسألة الأراضي الأذرية التي احتلتها أرمينيا، ولا علاقة لها بأراضي كاراباخ. وترى يريفان أن هذا كان ضرورة لحماية أرمينيا وكاراباخ من مخططات أذربيجان. لكن كل هذا يطرح سؤالاً عن التوقيت في تفجير النزاع الآن.

يتجاوز الصراع في القوقاز أطرافه المباشرين، أي كاراباخ، وأرمينيا، وأذربيجان. ويظهر هنا واضحاً الدور التركي المباشر في تفجير النزاع الآن. ومنذ اللحظة الأولى، لاقى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، نظيره الأذري إلهام علييف، في أن الحرب ستستمر إلى أن تنسحب القوات الأرمنية من الأراضي الأذرية المحتلة. وعزف أردوغان على الوتر القومي، بالقول إن الشعبين الأذري، والتركي، شعب واحد في دولتين، وإن تركيا ستقف إلى جانب أذربيجان حتى النهاية.

ومن سير الأحداث، فقد لعب الدعم العسكري التركي دوراً مهماً في الحرب. ومنذ معارك طوفوز والجيشان التركي، والأذري، يجريان مناورات مشتركة في القوقاز وحتى في شرق المتوسط.

ويعرف الهام علييف جيداً، أن الجيش الأذري لا يمكن أن يفتح جبهة عسكرية ضد أرمينيا من دون دعم تركيا، وموافقتها. لذلك فإن التشجيع على الحرب كان مطلبا تركياً لأكثر من سبب.

فقد عملت تركيا منذ نحو السنة لتوسيع نفوذها في شرقي المتوسط، في مواجهة اليونان، وقبرص اليونانية، وفي ليبيا، وعملت على تثبيت أقدامها في سوريا، ولا سيما في إدلب.

لكن تركيا بدأت في الآونة الأخيرة تخسر، أو تتراجع في أكثر من قضية. أولاً تراجعت تجاه اليونان، وسحبت سفينة التنقيب عن النفط "أوروتش رئيس" من المياه الإقليمية التي تعتبرها اليونان تابعة لها، بعدما هدد الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على تركيا. كما أن الدور التركي في المعادلة الداخلية الليبية تعرض لنكسة بعد إعلان رئيس حكومة طرابلس فايز السراج، عزمه على الانسحاب من الحياة السياسية في نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) الجاري. وفي سوريا تعرضت تركيا لضغوط من روسيا لتقليل عدد نقاط المراقبة التركية في إدلب. وفي سوريا، كما في ليبيا كانت تركيا تجد قبالتها روسيا. وفي الملف اليوناني والقبرصي وقفت روسيا على الحياد، ما أثار استياء تركيا.

أمام كل هذه التراجعات كان القرار التركي بتفجير جبهة القوقاز بحيث تستعيد تركيا، بعض الشيء، هيبة فقدتها من جهة، وتربك، من جهة ثانية، روسيا في منطقة القوقاز التي تعتبرها موسكو حديقة خلفية منذ أيام القياصرة، ما يفتح المجال، من جهة ثالثة، أمام اقتطاع أنقرة حصة لها في قرار الهيمنة على القوقاز الجنوبي، وهذا على حساب التفرد الروسي هناك.

وتستفيد تركيا من الدعم الأمريكي لها، حيث إن واشنطن تبحث عن أي مشكلة تضرب النفوذ الروسي في العالم، أينما أمكن ذلك. ولا شك في أن لإسرائيل مصلحة في توتير الصراع في القوقاز، ودعم أذربيجان باعتبار أنها خطوة تربك أيضاً الموقف الإيراني من جهة، وتزيد من اعتماد باكو على صادرات السلاح الإسرائيلية، والدعم الاستخباراتي لها من جهة أخرى.

وفي ظل عدم قدرة باكو على حسم الصراع مع أرمينيا بمفردها، ومع المخاطر العالية لأي تدخل عسكري تركي مباشر هناك، فإن تعليق الوضع، أو التسويف في إيجاد حلول واقعية، سيكون الخيار الأوفر حظاً في المدى المنظور لجميع الأطراف.