محمد نورالدين يكتب:
التدخل التركي.. بداية انحسار
دخلت ليبيا مرحلة جديدة مع إعلان فايز السراج رئيس حكومة طرابلس، وعقيلة صالح رئيس البرلمان الليبي، عن اتفاق؛ لوقف إطلاق النار بينهما، والشروع في محادثات؛ للتوصل إلى تشكيل حكومة جديدة موحدة، والدعوة لانتخابات نيابية ورئاسية في العام المقبل.
وقد جاء الإعلان عن وقف إطلاق النار مفاجئاً نوعاً ما؛ نظراً لأن الطرفين كان يحشدان ما امتلكا من قوة على قاعدة أن الذهاب إلى السلم؛ يتطلب التحضير للحرب.
اتفاق وقف إطلاق النار حظي بترحيب من مختلف القوى الإقليمية والدولية، وفي مقدمتهم الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الذي كان من أشد داعمي مبادرة وقف إطلاق النار. كذلك فإن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سارع ودعا السراج لزيارة باريس.
يعد وقف النار انتصاراً أولا لليبيا. فليس من بلد عربي مرّ عليه ما سمي ب«الربيع العربي» إلا وتحول إلى ساحة للفتنة الداخلية، والحروب الإقليمية والدولية. وفي مقدمة هذه الدول: سوريا واليمن وليبيا؛ لذلك فإن كل دعوة لوقف القتال هي في مصلحة شعوب هذه الدول؛ الضحية الأولى للصراعات الداخلية والخارجية عليها.
إن أي صيغة يتفق عليها الليبيون، وتضمن سيادتهم واستقلالهم وقرارهم الحر خارج أي هيمنة خارجية؛ ستكون إنجازاً وانتصاراً لليبيا الموحدة ولشعبها. وستكون هزيمة للقوى التي تعمل على تفتيت العالم العربي، ونهب ثرواته.
وعلى الرغم من كل التدخلات الخارجية، وأكبرها وأهمها تدخل حلف شمال الأطلسي؛ لخلع معمر القذافي وقتله لاحقاً، فإن التدخل التركي في ليبيا كان الأبرز بعد ذلك على هذا الصعيد. وقد حصل في ظل حكومة فايز السراج الذي وقّع مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2019 اتفاقيتين؛ الأولى لترسيم الحدود البحرية، والثانية للتعاون الأمني.
وإذا كانت الأولى أتت في محاولة لنسف تعاون دول شرق المتوسط في مجال الغاز الطبيعي، ومد أنبوب إلى أوروبا لا يمر في تركيا، فإن الإتفاقية الثانية كانت ذريعة للجيش التركي ليأتي إلى ليبيا مساعداً لجيش السراج في قتاله ضد قوات خليفة حفتر، المدعوم من البرلمان الليبي برئاسة عقيلة صالح. وقد نجحت قوات السراج- أردوغان بمعية آلاف المرتزقة الذين استقدمتهم أنقرة من إدلب السورية إلى ليبيا في تغيير موازين القوة على الأرض؛ عندما أبعدت الخطر عن العاصمة طرابلس، وتقدمت وصولاً إلى قبالة خط مدينتي سرت والجفرا الغنيتين والهلال النفطي.
كاد أردوغان والسراج أن يعلنا الانتصار في المواجهة العسكرية؛ لكن الموقف المصري؛ قلب الموازين رأساً على عقب. فقد راهن أردوغان على أن مصر لانشغالها بالخلاف مع إثيوبيا على «سد النهضة» ولغيرها من الأسباب لن تتجرأ على أن تكون طرفاً عسكرياً على الأرض الليبية.
لكن الرئيس المصري كان يغير قواعد اللعبة؛ عندما أعلن عن استعداد مصر للتدخل العسكري في حال حاولت تركيا والسراج التقدم إلى خط سرت - الجفرا، معتبراً إياه خطاً أحمر. وبالفعل منذ تهديد السيسي عرفت التطورات العسكرية جموداً وهدوءاً في انتظار ما يمكن أن تحدثه الظروف والمستجدات. وكانت المفاجأة في إعلان وقف النار، والعمل على مفاوضات، وإجراء انتخابات نيابية ورئاسية في العام المقبل.
في هذا الوقت كان لافتاً الصمت التركي تجاه إعلان وقف النار بين السراج وصالح، ومع أن السراج لا يمكن أن يخطو خطوة من دون التنسيق مع أنقرة، وبمعزل عما إذا كانت سرت والجفرا ستتحولان إلى منطقة منزوعة السلاح أم لا، فإن اتفاقية وقف النار في حال صمودها؛ تعني أن الخطط التركية للتقدم والسيطرة على الهلال النفطي قد فشلت، وتلقت بالتالي المشاريع التركية في ليبيا ضربة موجعة. وكان سبقها ضربة أخرى لتركيا هي توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان، التي أطاحت عملياً اتفاقية أردوغان السراج حول ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، ووجهت ضربة إلى محاولات توسيع النفوذ التركي في شرق المتوسط.
مع التلويح بالعصا العسكرية، فإن العمل على «سحب» السراج بطريقة أو بأخرى من تحت النفوذ التركي، سيكون مهمة مصر وفرنسا ومن معهما في المرحلة المقبلة. ولا يمكن القول إن مواجهة النفوذ التركي قد نجحت ما لم يخرج آخر جندي تركي ومرتزق سوري بإمرة تركيا من ليبيا، كما لا يمكن القول.. إن ليبيا استعادت عافيتها قبل أن تخرج كل القوات الأجنبية الأخرى منها. كذلك لن تخرج ليبيا من أزمتها ما لم تعد موحدة جغرافياً، وتحت سلطة موحدة.