فيصل الصوفي يكتب:

بل حقوقنا وحقوق الغربيين معاً

في مطلع شهر سبتمبر الماضي قررت إدارة مجلة شارلي إيبدو الفرنسية المشهورة بالسخرية من الأديان الإبراهيمية، ومن السياسيين أيضاً، إعادة نشر اثنتي عشرة صورة كاريكاتورية من الرسوم الساخرة التي تعرضت بسببها للهجوم الإرهابي الذي نفذه الاخوان كواشي وأودى بحياة اثني عشر صحفياً وفناناً أوائل العام 2015، من بينهم مدير النشر، وحارسه الشخصي، وأربعة رسامين، وكاتبان ومصحح لغوي، بينما نفذ آخر هجوماً على متجر يبيع منتجات شركة كوشر اليهودية فقتل تسعة فرنسيين.

هذه المرة قالت المجلة إنها كانت تتحين فرصة مناسبة لتلبية رغبة قرائها في رؤية تلك الرسوم مرة أخرى، وأخيراً وجدت لذلك مناسبة، وهي شروع محكمة فرنسية في محاكمة أربعة عشر شخصاً نهاية شهر أغسطس الماضي متهمين من قبل النيابة العامة، ومائتي مدعٍ، بتقديم أسلحة واموال للمتطرفين المسلمين سعيد كواشي وأخيه شريف، وأحمدي كوليبالي الذين نفذوا هجومين منفصلين أكبرهما الهجوم الدموي على المجلة بدعوى أن الرسوم التي ظهرت على غلافها أساءت لرسول الإسلام، وهي نفس الرسوم الساخرة التي نشرتها صحيفة يولاندس بوستن الدنماركية في 30 سبتمبر 2005.. وبعد ذلك -في شهر فبراير 2008- نشرت صحيفة ماجازينت النرويجية نفس الرسوم تضامناً مع الرسام كورت ويسترغارد الذي تعرض حينذاك لمحاولة اغتيال.

كان مدير النشر في مجلة شارلي أيبدو قال إنه لا يلوم المسلمين على عدم الضحك عند رؤية الرسوم، ولكنه يعيش في ظل القانون الفرنسي، وليس في ظل قانون القرآن.. فأدى إعادة النشر في 2020 إلى ردود فعل في أنحاء من العالمين العربي والإسلامي، وإن كانت أقل هيجاناً عن تلك التي صدرت في العام 2005.

أما في الداخل فقد تنبه مسلم فرنسي من أصل باكستاني إلى القضية في وقت متأخر، حيث تطوع بطعن رجل وامرأة بسكين بعد مرور أسبوعين من إعادة مجلة شارلي ايبدو نشر الرسوم.. رأى رجلاً وامرأة واقفين قرب مبنى في باريس، فثأر للرسول منهما، واعترف للشرطة أنه تعمد استهداف العاملين في مكتب مجلة شارلي إيبدو.. لكن مكتب المجلة ليس في المبنى، فقد تركته منذ سنوات، وصار له مستأجر جديد هو وكالة الإنتاج الإخباري (بروميير لينيو) التي يعمل فيها الرجل والمرأة! وهذه الحالة مثال جيد للعشوائية والتخبط في القضية برمتها، حتى إن تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي لم يتردد في إعلان مسئوليته عن هذا الهجوم.. وهذا بدوره يذكرنا بتبني تنظيم القاعدة الهجوم الكبير الذي شاهدته باريس عام 2015، حيث نشر التنظيم فيديو على موقع الملاحم يظهر فيه حارث النضاري -المسؤول الشرعي في تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب- وهو يتحدث عن الغزوة المباركة في باريس، لتعليم الفرنسيين الأدب وحدود حرية التعبير.. وإن يسلموا فهو خير لهم!

وأثناء ذلك وقبله وبعده، لم تفكر الدول العربية والإسلامية في التصدي لجماعاتها ومواطنيها الذين يتسببون بأذى للإسلام وللمسلمين في الغرب.. فالنضاري يمني تخرج من جامعة الإيمان، وهو أحد شيوخ حزب التجمع اليمني للإصلاح، وظهر إلى جانب القيادي في القاعدة أبو حمزة الزنجباري في مدينة القطن بعد سيطرة التنظيم عليها في شهر أغسطس 2014 تقريباً، وشريف كواشي وأخوه سعيد تواجدا في اليمن خلال الأعوام 2009- 2013، وفي تلك الفترة كان سعيد يدرس في جامعة الإيمان.

ويبدو أن الهجوم الإرهابي الذي نفذه إبراهيم العويساوي يوم 29 أكتوبر على كنيسة نوتردام دو لاسومبسيون، في مدينة نيس الفرنسية، مثل سابقه، له ارتباط بجماعة إرهابية في بلد عربي آخر.. لقد وصل العويساوي إلى فرنسا يوم 7 أكتوبر من تونس عبر إيطاليا بلجوء غير قانوني، وبعد 22 يوماً ذهب إلى الكاتدرائية ليطعن الذين حضروا القداس الأول، وكان أول ضحاياه امرأة مسنة، طعنها ثم حاول قطع رقبتها، على عجل، لكنه تركها تموت ورأسها متصل بجسدها، لينقض على خادم في الكنيسة ويقطع رقبته، وبعد قتلهما توجه نحو امرأة وأطفالها وطعنها في الصدر فماتت هي الأخرى، وقبل أن يجهز على آخرين حضرت الشرطة وشلت حركته برصاصة على كتفه.. لقد استطاع العويساوي القيام بهذه المهام خلال دقائق قليلة على الرغم من عدم توافر دليل عن اشتغاله بالجزارة.. وقد زعم تنظيم تونسي يسمى المهدي بالجنوب التونسي، أنه المسؤول عن توجيه العويساوي لتنفيذ الهجوم.. ويدعم هذا الزعم أن الإرهابي سافر إلى فرنسا دون علم عائلته، حتى إنه عندما اتصل بأمه من هناك تعجبت، وسألته ماذا تفعل في فرنسا حيث لا تعرف أحداً فيها ولا تعرف اللغة الفرنسية.. وتعتقد السلطات المعنية الفرنسية أن الهجوم كانت وراءه جماعة.. هناك حتى الآن أربعة متهمين كانوا على تواصل مع المنفذ حتى غداة هجوم نيس، وقد قدموا له المساعدة، ومن بينهم متطرف تونسي يدعى وليد السعيدي سبق اعتقاله وسجنه في بلاده، ووصل فرنسا حين وصل إليها العويساوي.

لا يحتاج الإرهابيون إلى رسوم مسيئة للرسول لكي يتحركوا ويضربوا في فرنسا أو في غيرها، فقد نفذوا هجومات إرهابية مروعة وكثيرة في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها دون مبرر.. ومثل هذه الأفعال هي التي تدفع نحو تصوير المسلمين على هيئة مجموعة حاملة لثقافة الكراهية والموت، وأحد أشكال ردود الفعل هي الرسوم المسيئة لنبي الإسلام، فهي ترتكب تحت راية الرسول، كما أن تصريحات الرؤساء والزعماء الغربيين التي تنتقد الإسلام هي رد فعل على أفعال التدخل في شئون المسلمين في الغرب، كما هي ردود فعل لأفعال معادية للغرب وحضارته وقيمه من جانب التنظيمات والجماعات الإسلامية المتطرفة والإرهابية التي تستغل بعض الأخطاء لتحريك عواطف الأفراد والجماعات، بل والحكومات العربية والإسلامية.. ومن قبل ومن بعد فإن هذه الأفعال لن تدفع المجتمع الغربي، كالمجتمع الفرنسي مثلاً، إلى التخلي عن قيمه، كما في حرية الرأي والتعبير.. ومن جهة ثانية يتعين إدراك أنه لا قيمة لمطلب منح المسلمين خصوصية بشرعة دولية، كما في الدعوة التي وجهها شيخ الأزهر قبل أيام إلى المجتمع الدولي، بخصوص إقرار تشريع عالمي يجرم الإساءة للإسلام ومعاداة المسلمين.. وللقول بقية.