فيصل الصوفي يكتب:
ما بعد ليلة مقتل جيرونيمو
خصص الرئيس الديمقراطي الأسبق لجمهورية الولايات المتحدة الأميركية الجزء الأخير (الفصل 27) من كتابه الضخم (الأرض الموعودة) للحديث عن كيفية العثور على المكان الذي يقيم فيه جيرونيمو.. وبدا لنا أن أوباما كان في سبيل استعراض أهم إنجاز حققه للشعب الأميركي في عهده، الأمر الذي ساعده على ولاية رئاسية ثانية مستقرة.
كان البحث عن جيرونيمو شاقاً، فبعد انهيار تورا بورا، خفي عن عيون وكالات الاستخبارات الأميركية الكثر التي كانت تراقبه من الأرض والسماء طول عشر سنوات.. لكن لم يطل الأمد على لبد الجهاد العالمي، إذ قتل جيرونيمو برصاصة واحدة فقط صوبها إلى رأسه جندي من مجموعة قوة (سيل) التي اختار ماك ريفين أفرادها بعناية، وأخضعهم لتدريب متقن على اقتحام الأماكن المحصنة التي يقيم فيها إرهابيون برفقة عائلاتهم.
تلك المجموعة هي التي نفذت الهجوم على مجمع سكني بباكستان، مطلع شهر مايو2011، وكان أوباما يتابع عملية الهجوم عبر الأقمار الاصطناعية خطوة خطوة: منذ انطلقت المروحيات الثلاث من أفغانستان، إلى أن هبطت على أرض المجمع، وهي تحمل ثلاثين جندياً لتنفيذ عملية قتل جيرونيمو في ليل مدلهم.. واستجوبوا نساءَ واطفالَ بن لادن.. إلى أن عاد ماك وجنوده إلى موقعهم في أفغانستان، وفي أياديهم أهم أسرار تنظيم قاعدة الجهاد العالمية.
عاد ماك ورجاله وفي حوزتهم جميع أجهزة الكومبيوتر والملفات التي كان يستخدمها جيرونيمو، وكثير من الوثائق المهمة.. لم يكن هناك هواتف لكي يصادروها، إذ حظر جيرونيمو استخدامها في المجمع السكني.
بني المجمع السكني الضخم وسط حي راق بمدينة أبوت أباد الباكستانية، أقرب المدن إلى العاصمة إسلام أباد.. يعتقد أنه بني باسم شخص يدعى أحمد الكويتي، وهذا كان هو الوحيد الذي يدخله ويخرج منه، ولذلك تعرف عليه المخبرون، وتابعوا سلوكه اليومي.
لم يحضر ماك مقياساً لكي يتأكد أن الصريع هو المقصود، لكنه كان يعرف أن طول جيرونيمو 195 سنتيمترا، فأمر جندياً طوله 189 سنتيمتراً، الرقود بجانب جثة جيرونيمو لمقارنة طوله مع طول قامة الأخير.. كان ذلك زيادة في التوكيد بعد تأكد ماك من صورة المقتول، وتطابقها مع الصور والمعلومات التي زوده بها برنامج لوكالة المخابرات مخصص للتعرف على الوجوه... قال ماك ريفين: إني متأكد أنها جثة جيرونيمو.. فقال له الرئيس باراك، مازحاً: أحقاً يا بيل؟ كل هذا التخطيط، يا بيل ولم تفكر في إحضار شريط قياس؟
أحقاً يا بيل؟ قالها بينما كان يسمع من قائد مجموعة وا ساري سرى الليل.. ففي العملية الهجومية المباغتة السريعة السرية كان بيل هو الاسم السري لقائدها ماك رايفين.. أما الاسم جيرونيمو فجعلوه رمزاً للهدف.. زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن الذي كان يبحث عنه أوباما، فهو الرجل المسئول عن هجوم 11 سبتمبر 2001 الذي قتل فيه أكثر من ثلاثة آلاف أميركي في انهيار برجي التجارة العالمي في نيو يورك.
اقترح مستشارو الرئيس باراك أوباما نشر صورته مقتولا برصاصة في الرأس لطمأنينة الرأي العام في أميركا، فقال لهم: لسنا بحاجة إلى استعراض تلك الغنيمة المشؤومة.. ادفنوه في مكان ما عمق البحر.
وهكذا انتهت الأسطورة التي صنعها الأميركيون، لهزم الشيوعية التي لم تعرفها أفغانستان، بينما قدمت مجموعة صغيرة من البلدان العربية نحو أربعة مليارات دولار لتمويل مشروع المخابرات الأميركية لمكافحة الشيوعية السوفييتي، فضلاً عن ألوف الشباب العرب، العدد الأكثر منهم سحق، والبقية إما انتشروا في ساحات الغضب العالمية، وقليل منهم عاد إلى بلاده ليراقب، فهرب من الدنيا برصاص وأحزمة ناسفة، آخذا معه أرواح رجال ونساء وأطفال أبرياء، وقد شاهدت السعودية وقائع من هذا الصنف مزلزلة، لكن بحكم قوتها واجهت الإرهاب بحلول أمنية صارمة، واستأصلته.
أدى قتل أسامة بن لادن إلى ضعف واضح لتنظيمه.. وقتله كان عادلاً بالنسبة للأميركيين، وهم في ذلك محقون، فهو المسبب في قتل آلاف الأميركيين الأبرياء في أماكن مختلفة على كوكب الأرض.. وقتله عادل أيضا بالنسبة للمسلمين.
تنظيم القاعدة أينما وجد، وأي تنظيمات إرهابية مشابهة ستختفي ذات يوم قريب.. فهي لا تصلح لإقامة دولة، بل تصلح للقتل وخراب العمران.. المسلمون في شتى بقاع الأرض تعرضوا لمضايقات وفقدوا مصالحهم بسبب التنظيمات الإرهابية.. يشغب شاغبون من كل جهات الدنيا على الإسلام ونبي الإسلام.. والسبب أفعال التنظيمات الإرهابية.
تنظيمات أنشأها الغضب وحركتها الرغبة في القتل، لم تنشأ بتأثير فكرة، رشيدة، عاقلة، ولا أهداف شريفة لها.. هذا ما اعترف به عرابو التنظيمات الإرهابية، وتابوا عنه بعد فوت الأوان.. والفالح فيهم كان يقول إن هدف هذه التنظيمات تعبيد الناس لربهم، والعودة إلى ما كان عليه السلف الصالح.. يا هذا انظر حولك.. من أعطاك سلطة التدخل بين الله وعباد الله.. ومن قال لك إن استعادة الخرافة القديمة ممكنة؟
كان وجه الأرض سيكون مختلفاً عن ما هو عليه اليوم، لو أن أسامة بن لادن استخدم فائض ثروته كما استخدم بل جيتس وأضرابه ثرواتهم الفائضة.. ولو أن أموال التبرع والزكاة التي قدمتها هيئات إسلامية للإرهابيين وظفت لمصلحة المجتمعات الإسلامية.. على أنه في الوقت الذي قتل فيه بن لادن ومساعدوه وتم إضعاف تنظيم القاعدة، كان التنظيم الأب والأم لجميع الجماعات الإرهابية قد اختبر نفسه، ولم يشأ بعد نحو تسعين سنة إلا أن يكون إرهابياً أصيلاً، والآن هو يعاني النزع الأخير، بعد نكبته في مصر السيسي.. ستكون الحياة أفضل للعرب ولدينهم بدون جماعة إخوان مسلمين.