الحبيب الأسود يكتب:

إرهابي نيس والواقفون وراءه

الشاب التونسي الذي لم يتجاوز الحادية والعشرين من عمره، والذي استقل أحد قوارب الموت في رحلة هجرة سرية نحو لامبادوزا، ومنها إلى باري، حيث عبر الأراضي الإيطالية إلى فرنسا، واتجه مباشرة إلى مدينة نيس، وفيها بحث عن كنيسة نوتردام، وقضى ليلته بالقرب منها، ليهاجم روادها من المصلين في ساعات الصباح الأولى، ماذا يمكن أن نقول عنه؟

هل هو فتى مغرر به وتم استغلال حالة اليأس، التي عادة ما تصيب أنداده من أبناء العائلات المعوزة في المجتمعات المحلية الفاقدة للرعاية الاجتماعية والثقافية والعاطفية، للدفع به نحو عملية إرهابية ربما كان هدفه الأول منها أن يموت برصاص فرنسي، ليلتحق بالجنة التي وعده بها شيوخ الضلالة، حيث أنهار اللبن والخمر والعسل وحور العين مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، أم هو إرهابي فعلا ممن يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن تغيير العالم والقضاء على من خالفهم الدين والعقيدة، وممن يتخذون من التكفير منهجا، ومن التفجير أداة، ومن سفك الدماء مسارا لتكريس دولة الإسلام واستعادة الخلافة، على أن تكون هذه المرة إخوانية أردوغانية بسمات عثمانية طورانية؟

وإذا كان كذلك، متى تبنى هذا الفكر؟ وأين؟ وكيف؟ ومن كان وراء تجنيده ودفعه إلى قارب الموت من سواحل صفاقس لينطلق إلى إحدى الجزر الإيطالية ومن هناك إلى رحلة الجهاد المزعومة إلى فرنسا؟

مهما يكن من أمر، فإن إبراهيم لم ينفذ الهجوم الإرهابي اعتباطا، ولم تكن فكرة ذبح المصلين المسيحيين بنت وقتها، والشاب الذي كان يحلم بالوصول إلى لامبادوزا لا يمكن أن ينجح بسهولة في عبور الأراضي الإيطالية والوصول إلى نيس الفرنسية بتلك السهولة، خصوصا وأنه لا يتكلم أيا من لغتي البلدين، ومن المفروض أن لا علاقات له فيهما.

بقليل من التروي يمكن أن نقترب من أطوار القضية: فإبراهيم وصل إلى إيطاليا كمهاجر غير شرعي في 20 سبتمبر، أي قبل كلمة ماكرون التي أثارت غضب الإسلام السياسي، والتي كان ألقاها في 2 أكتوبر، وقبل مقتل أستاذ التاريخ الفرنسي صامويل باتي في 17 أكتوبر، وبالتالي قبل الحرب المعلنة من قبل الإسلاميين على فرنسا، وهذا ما يعني أن إبراهيم لم يكن وهو يغادر بلاده مدفوعا بفكرة تنفيذ عملية إرهابية ضد فرنسيين، لغياب الدوافع الموضوعية لذلك.

رحلة إبراهيم من لامبادوزا إلى نيس لم تكن مباشرة، وإنما اتجه من الجزيرة الإيطالية نحو مقاطعة باريس في التاسع من أكتوبر، وكان آنذاك خاضعا لالتزام بمغادرة إيطاليا قبل إطلاق سراحه، سيكون علينا هنا أن نبحث عن سر الأيام التي قضاها الإرهابي قبل دخوله إلى فرنسا بيوم واحد من تنفيذه الجريمة، لندرك من ورائه كيف تحول من حالم بتحسين ظروفه المادية إلى قاتل، فجميع المؤشرات تؤكد أن إبراهيم لم يكن متشددا دينيا، كما أن عمره وتجربته في الحياة لا تسمحان له ببلورة موقف عقائدي يدفع به إلى تنفيذ هجوم إرهابي بذلك الشكل، وبتلك القدرة على الوصول بسهولة إلى تنفيذه هدفه.

عندما ضبطته الشرطة، وجدت لديه هاتفين ومصحفا وسكاكين غير مستعملة، كان يخفيها داخل كيس، ولن يكون من السهل الاقتناع بأنه كان يعبر إيطاليا ويدخل فرنسا وهو يتأبط أسلحة بيضاء، كما لا يمكن القول إنه اشتراها من نيس لأن ذلك كان سيثير ريبة من يبيعه إياها، خصوصا بعد حادثة ذبح أستاذ التاريخ، وهو بالتأكيد لا يريد أن يحرك شكوكا من حوله، وكذلك لقصر المدة التي قضاها في المدينة.

والسؤال هنا: هل تم تجنيد إبراهيم في إيطاليا ليجد من ينتظره في نيس؟ والجواب الأقرب إلى المنطق أن شبكة إرهابية جندته في إيطاليا وأن هناك من رافقه من الأراضي الإيطالية إلى الداخل الفرنسي، وأنه وجد السكاكين وخطة الهجوم لدى شخص كان في انتظاره بمدينة نيس، وأن هذه الأطراف تتحرك في دائرة مغلقة وفي سرية مطلقة، وهي ليست من المجموعات التقليدية والمعروفة كداعش الذي لم يسارع كعادته بتبني الهجوم رغم هجمات سابقة ضد فرنسا، سواء من الداخل أو الخارج، أو تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي الذي لديه كذلك تاريخ طويل من المواجهات الدموية مع الفرنسيين.

سيكون علينا أن نعترف بأن الإسلام السياسي في شمال أفريقيا ودول الساحل والصحراء ينظر إلى فرنسا كعدو لدود، الأمر في تونس لا يخرج عن هذه القاعدة، التي يحاول إسلاميون تبرير جانب مهم من عدائهم للدولة الوطنية بما يعتبرونه تبعية لفرنسا وتأثرا بثقافتها العلمانية أو اللائكية من قبل النظام السابق في عهدي بورقيبة وبن علي، وبالنسبة لهم فإن كل ما يناقض مشروعهم الشمولي هو إرث فرنسي بالضرورة، وكل من يتصدى لأيديولوجيتهم هو عميل لفرنسا، وصفحات التواصل الاجتماعي تعج بملايين التدوينات والتعاليق في هذا الاتجاه.

بل إن العداء لفرنسا بات منتشرا على مستويات عدة في مجالات التعليم والإعلام والثقافة والخطاب السياسي والديني، وارتفعت وتيرته من خلال الأبواق الممولة من قطر ونتيجة المواجهة المعلنة بين باريس وأنقرة، ووصل صداه إلى البرلمان بعد أن بات يضم نوابا لم يحتلوا مقاعد تحت قبته إلا بخطاب الكراهية المتمركز أساسا حول ما سمي بالثروات المنهوبة من قبل فرنسا.

إن شابا كإبراهيم العيساوي، نما وعيه الساذج على هذا الخطاب الذي كان يستمع إليه يوميا أو يتابعه عبر فيسبوك، موقع التواصل الاجتماعي الأكثر انتشارا في تونس والمنطقة المغاربية، والذي يحمّل الفرنسيين مسؤولية التخلف والفقر والجهل والمرض والبطالة، ويتهمهم بمعاداة الإسلام ودعم التيارات الحداثية المتهمة بدورها بالعمل على اجتثاث المجتمع من هويته، لذلك وما إن وجد الفرصة مناسبة لتنفيذ عملية “الثأر” حتى اندفع إليها.

تنتشر ثقافة الكراهية بسرعة فائقة في المجتمعات العربية، وتجد أرضا أكثر خصوبة في الفئات الفقيرة والهشة نفسيا واجتماعيا، والخاضعة لعمليات غسيل دماغ يومية من قبل قوى تستغل المجال الواسع من حرية التعبير لتنفيذ أجندات مرتبطة بمحاور إقليمية ودولية، وهذا ما يحدث في تونس التي يرى أغلب المراقبين أن للإرهاب فيها حاضنة سياسية تحاول استثماره في توسيع دائرة نفوذها.

إن إبراهيم العيساوي ليس استثناء وإنما هو قطرة من بحر التطرف الطارئ وشديد الانفجار الذي يتم استغلاله في تصفية الحسابات السياسية، وخدمة مشروع لا يزال يتمدد ليشكل تهديدا للجميع، ولن يتم القضاء عليه إلا بتفكيك الشبكات التي تقف وراءه كما وقفت وراء إبراهيم، واتخاذ موقف حازم من مموليها ومحركيها سواء كانوا دولا أو أحزابا أو منظمات أو مافيات تحارب في إطار الصراع على النفوذ بالمنطقة والعالم.