الحبيب الأسود يكتب:
ملتقى تونس للحوار الليبي: تفاءلوا ولكن في حدود
انطلق ملتقى تونس للحوار الليبي مثقلا بعدد من التحديات وبجملة من الأسئلة حول طبيعة مخرجاته التي لم يعد خافيا أن البعثة الأممية ستسعى إلى فرضها على المشاركين، وهناك من يؤكد أنها جاهزة وأن المطلوب هو إضفاء شرعية عليها توحي البعثة بأنها مستمدة من اتفاقية الصخيرات المبرمة في ديسمبر 2015 والتي كانت وراء كل المطبّات التي عرفتها البلاد منذ خمس سنوات، وتحظى بالدعم الدولي من خلال مخرجات مؤتمر برلين المنعقد في يناير 2020.
في 23 أكتوبر الماضي، استطاعت اللجنة العسكرية المشتركة التوصل إلى اتفاق بخصوص إقرار الوقف الدائم لإطلاق النار، وإجلاء القوات الأجنبية والمرتزقة، وحل الميليشيات ودمجها في مؤسسات الدولة، وتم التأكيد على ذلك وتحديد خارطة الطريق لتنفيذ المقررات خلال اجتماعات “غدامس” في الثاني والثالث من نوفمبر الجاري، وقد أثبت العسكريون الليبيون قدرتهم على التفاهم من أجل مصلحة بلادهم، وانضباطهم في قراءة الواقع وتحديد معالم الحل للصراع الميداني وفي فهم ما هو مطلوب إقليميا ودوليا، وتحدثت البعثة الأممية والسفارة الأميركية عن وجود ما وصفتها بالأقلية التي تحاول عرقلة مسارات التوافق لأهداف شخصية أو لحساب قوى خارجية، في إشارة واضحة إلى الميليشيات المؤدلجة وأمراء الحرب وقوى الإسلام السياسي وبقية الأطراف المرتبطة بقطر وتركيا، ولا ترى حلّا للأزمة المستفحلة منذ تسع سنوات إلا بإقصاء قائد الجيش المشير خليفة حفتر من أي دور مستقبلي عسكري أو سياسي، وقطع الطريق على مؤيديه، وسيطرة الجماعات المسلحة على كامل البلاد، وخاصة منابع النفط والغاز، وفوق ذلك شرعنة التدخل التركي والإبقاء عليه كضمان لسيطرة الإخوان على السلطة والثروة والسلاح.
مجرد النظر إلى حادثة اختطاف مواطنين ليبيين قادمين من بنغازي في مطار معيتيقة، وفشل حكومة الوفاق في تحديد مكان احتجازهم أو هوية الجهة التي اختطفتهم، يكشف عن الواقع الأليم في غرب البلاد
يوم الخميس الماضي، أقلعت طائرة “البراق” من مطار بنينا في بنغازي في رحلة تجارية إلى مطار معيتيقة في طرابلس الخاضع لنفوذ وزارة داخلية الوفاق، وذلك في إطار تنفيذ اتفاق جنيف وتوافقات “غدامس” حول فتح المجال الجوي والسماح لليبيين بالتنقل بين مناطق بلادهم بكل حرية، ولكن ما إن وصلت الطائرة إلى العاصمة حتى كان مسلحون في انتظارها ليقوموا باختطاف عدد من الركاب ونقلهم إلى مكان غير معلوم، وقد كان من المضحكات المبكيات أن داخلية الوفاق أصدرت بيانا ندّدت فيه بالعملية دون تحديد الجهة الخاطفة، ما جعل ميليشيات قوة حماية طرابلس تسخر منها ومن الوزير المفوض فتحي باشاغا، الذي صرف أموالا طائلة على تدريب وتخريج قوات حكومية وعلى هيكلة جهاز المخابرات، ليأتي بعد ذلك مسلحون ويختطفون مواطنين من المطار الذي يفترض أنه مؤسسة سيادية، دون أن ينتبه إليهم أحد، أو يكشف هوياتهم.
المهتمون بالشأن الليبي يدركون أن تلك العملية كان الهدف منها التأكيد على أن مقاليد السلطة الفعلية على الأرض لا تزال بين أيادي الميليشيات، وأن رسالتها كانت واضحة إلى البعثة الأممية التي انتظرت ثلاثة أيام لتصدر بيانا باهتا حول الجريمة، وإلى اللجنة العسكرية المشتركة وحتى لحكومة السراج ولوزير داخليته باشاغا، الطامح إلى الحصول على منصب رئيس حكومة الوحدة الوطنية، التي من المنتظر أن تنبثق عن ملتقى تونس، وقام الأسبوع الماضي بزيارة القاهرة لتقديم نفسه إلى السلطات المصرية كحمامة سلام، بعد أن كان أحد أبرز الصقور الداعمة للتدخل التركي والقطري وللميليشيات كقوة مواجهة أمام الجيش الوطني.
ولم يعد خافيا أن مياها كثيرة جرت خلال الفترة الأخيرة، ومنها سحب البساط من تحت قدمي عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب، بعد أن كان مرشحا لرئاسة المجلس الرئاسي، حيث تبيّن أن ثلاث دول مؤثرة في الملف الليبي، وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا، رفعت في وجهه الفيتو بعد أن سرّب مقربون منه إلى أجهزة تلك الدول تصريحات منسوبة إليه بأنه مستعد لمنح روسيا قاعدة عسكرية في شرق البلاد إذا لم تنسحب تركيا من غرب البلاد، وقبل أيام تمت دعوته إلى مالطا، حيث طلب منه مسؤولون أميركيون سحب ترشحه للمجلس الرئاسي، ليترك مكانه لشخصية أخرى من المنطقة الشرقية (برقة)، قد تكون محمد البرغثي، علما وأن رئيس الحكومة سيكون من المنطقة الغربية (طرابلس)، وستؤول رئاسة البرلمان بعد إعادة توحيده إلى أحد نواب المنطقة الجنوبية (فزان).
استبعاد عقيلة صالح يعني بمعنى آخر فشل المشروع السياسي المشترك لمجلس النواب ومجلس الدولة برئاسة خالد المشري، ويعني كذلك أن حسابات البيدر اختلفت كثيرا عن حسابات الحقل، خصوصا وأن ستيفاني وليامز، المبعوثة الأممية بالوكالة، كانت تتحرك في اتجاه مشروعها بقوة ضغط الإدارة الأميركية التي تراهن على الحل قبل يناير القادم، ولكن خسارة ترامب قد تقلب الموازين وتطيح ببوادر الحل، خصوصا في ظل الإعلان عن زيارة قريبة للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى طرابلس لتثبيت دوره في ليبيا، وهو ما يتنافى مع مخرجات جنيف العسكرية.
إن أهمّ الأسئلة التي تواجه ملتقى تونس هي: ماذا بعد البيان الختامي؟ وكيف ستتم ترجمة الاتفاق على الأرض؟ وهل ستستطيع البعثة الأممية ضمان إخراج القوات التركية والمرتزقة من إقليم طرابلس؟ وهل ستستطيع الدفع نحو حل الميليشيات فعلا وجمع السلاح؟ وماذا لو رفض مجلس النواب ومجلس الدولة الاتفاق؟ بل وماذا لو رفضت حكومة السراج في الغرب وحكومة الثني في الشرق الاستقالة وترك المجال لحكومة وحدة وطنية؟
إن أي تفاؤل يجب أن يكون في حدود المعقول، فالأزمة الليبية تعقدت أكثر خلال الأشهر الماضية بعد أن سمح ترامب لأردوغان بدخول البلاد واستعراض قوته العسكرية في غربها، والصراع في ليبيا هو صراع من أجل السيطرة على الثروة، حتى أن هناك من أصحاب النفوذ الحاليين من يرفضون بكل قوة التنازل على مناصبهم لكي لا يخسروا امتيازاتهم.
ملتقى تونس للحوار الليبي مثقلا بعدد من التحديات وبجملة من الأسئلة حول طبيعة مخرجاته التي لم يعد خافيا أن البعثة الأممية ستسعى إلى فرضها على المشاركين، وهناك من يؤكد أنها جاهزة
كما أن كل الأطراف المتداخلة في الأزمة تعاني في داخلها من صراعات مفضوحة، صراعات داخل الوفاق، وصراعات داخل البرلمان، وصراعات داخل مجلس الدولة، وصراع بين الميليشيات، وأخرى في “مصراتة”، وحتى بين رموز النظام السابق، حيث أن من تم ترشيحه من قبل بعض أنصار القذافي لا يحظى بدعم أغلب التيارات الأخرى من داخل المنظومة “الجماهيرية” بل ومرفوض من سيف الإسلام القذافي نفسه الذي نقل موقفه إلى المبعوثة الأممية عند اتصالها به مؤخرا.
المتفائلون يصرون على أن المشاركين في ملتقى تونس سيوافقون على خارطة الطريق كما أعدتها ستيفاني وليامز، ولكن من يسيطرون على الأرض لهم مواقف أخرى، وهناك تناقضات في ما بينهم، حتى أن الحديث عن انتخابات قادمة لا يعني شيئا في ظل استمرار نفوذ الميليشيات، وفي ظل إصرار أردوغان على تدخله السافر، وكذلك أمام استعداد الإدارة الأميركية الحالية لتسليم عهدتها إلى إدارة جديدة قد يكون لها موقف مختلف عما تراه إدارة ترامب حاليا.
إن مجرد النظر إلى حادثة اختطاف مواطنين ليبيين قادمين من بنغازي في مطار معيتيقة، وفشل حكومة الوفاق في تحديد مكان احتجازهم أو هوية الجهة التي اختطفتهم، يكشف