بهاء العوام يكتب:
بايدن "الطيب" وترامب "الشرير"
عندما تموت البقرة تكثر السكاكين. ربما يصلح هذا المثل اليوم لوصف ما يعيشه الناقمون على الرئيس دونالد ترامب وسنواته الأربع في الحكم. فتجد بين المغردين على تويتر أو الناشرين على فيسبوك من يحلل خسارته في الانتخابات الرئاسية بكثير من الشماتة، أو يتهكم على صورة أو تعليق لترامب وهو يرفض النتائج.
لا يشمل “الانتقام” الشعبي من ترامب ما يمارسه “صحافيون” و”إعلاميون” و”ساسة” في وصف ترامب بـ”الغبي” أو “الحمار” أو غيره. فعندما تقرأ وتسمع مثل هذه اللغة البائسة ممن يفترض أن يكونوا “قادة الرأي” في بلادنا، تأسف على حال الأجيال القادمة، وتدرك مدى الانحطاط الفكري الذي نعيشه اليوم في مجتمعاتنا.
في سياق “الانتقام” من الرئيس الأميركي السابق إن جاز لنا القول، يستوقفك موقف بعض دول المنطقة والعالم من خسارته. فتجده هزيلا وبائسا ومتناقضا أحيانا، وتجده متسرعا وخائفا أحيانا أخرى. فقط الصين وروسيا من وضع الأمر في نصابه الطبيعي وقالتا إن تهنئة جون بايدن لن تكون إلا بعد إعلان النتائج رسميا.
ربما يحق للدول بعض “الانتقام” من ترامب إن كان قد أضر بمصلحتها أو بشعبها. إما سياسيا بتهنئة سلفه، أو إعلاميا عبر إعلان فوز خصمه قبل إقرار نتائج الانتخابات رسميا، مرفقا بتحليل متحيز قليلا للخسارة تحت عنوان النقد البناء لحقبة زمنية حملت كثيرا من التغييرات على دول المنطقة العربية والعالم عموما.
في الحقيقة يصعب الجزم بضرر مباشر لترامب طال دولة في الشرق الأوسط إلا فلسطين. فهو من اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، كما رسم خارطة سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين تتعارض مع التشريعات الأممية التي أقرت الدولتين على أساس حدود الرابع من يونيو عام 1967.
هناك دول في المنطقة مثل إيران تدعي الضرر من الرئيس “الشرير”، ولكن عندما تبحث في توصيف هذه الدول لمظلوميتها تجد أنها تحمل جانبا من المنفعة لأمن الشرق الأوسط. فلولا حصار ترامب للخمينيين لعاثوا خرابا في دول الجوار العربي أكثر بكثير مما فعلوه زمن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.
ما يصعب تفسيره هو “انتقام” البعض من السلف عبر التبشير بالخلف وكأنه نبي. فبعض الدول تصفق للديمقراطي جو بايدن فقط لأنها تكره ترامب. هي تعرف جيدا أن الرئيس “المنتخب” جو بايدن لا يقل سوءا عن سلفه لها ولغيرها، ورغم ذلك ترحب به وتهلل لوصوله إلى البيت الأبيض وكأنه “المهدي المنتظر”.
في مثل هذا الانتقام يخطر لك فرح دول عربية مثل قطر بفوز بايدن وهي تعرف أنه قد يعيد إطلاق يد إيران في المنطقة تماما كما فعل سلفه الديمقراطي باراك أوباما. لا ضير في ذلك أبدا بالنسبة لهذه الدولة، رغم أنها على الأقل تدعي دعم الثورة السورية التي قمعتها طهران وميليشياتها، فقتلت وشردت الملايين من السوريين.
قد تجد تفسير ذلك في سبب آخر للتبشير ببايدن، وهو يتلخص في نيته إلحاق الضرر بدول معينة في المنطقة. فهناك أنظمة عربية لا تريد من الرئيس الأميركي الجديد إلا الانتقام من جار أو شقيق. لا يهمها كيف، ولا حجم الضرر الذي قد يحدثه في المنطقة عموما، حتى أنها مستعدة لدفع الأموال من أجل تنفيذ هذا الانتقام.
جماعة الإخوان تحلم هي الأخرى بالرئيس بايدن للانتقام من الدول العربية التي حظرت الإسلام السياسي وصنفتها على قوائم الإرهاب. فالرئيس الجديد هو من أتباع أوباما الذي أطلق نظرية دعم الجماعة وشبيهاتها لتحكم المنطقة وتنشر ثقافتها. ثم أتى بجيوش لمحاربة تنظيمات مثل داعش، ولدت من رحم هذه الثقافة.
المشكلة أن فرحة الإخوان بالرئيس الأميركي الجديد لن تكتمل لأنه لن يكون على وفاق مع “مرشدهم” رجب طيب أردوغان. فالساكن الجديد للبيت الأبيض يتوعد الرئيس التركي منذ زمن، أولا بسبب علاقاته المتينة مع الروس، وثانيا بسبب غطرسته وتمرده على شركاء الولايات المتحدة في القارة الأوروبية وحلف الناتو.
حتى الأوروبيين مارسوا “انتقاما” محدودا من ترامب عبر تهنئة الرئيس الجديد قبل إعلان نتائج الانتخابات الأميركية رسميا. ولكن يمكن القول إن انتقامهم كان أقل قبحا لأنه يستند إلى أسباب واضحة في تفضيل الخلف على السلف. وفي مقدمتها عدم اهتمام بايدن بحجم مساهمة الأوروبيين في ميزانية حلف شمال الأطلسي.
وزير خارجية ألمانيا، هايكو ماس، دعا صراحة إلى شراكة جديدة عابرة للمحيط الأطلسي تطلقها وترعاها الولايات المتحدة. وأول شروط الشراكة التي يتطلع لها الأوروبيون، أو الاتحاد الأوروبي بتعبير أدق، هو أن يتغير دونالد ترامب ويحل مكانه رئيس لا يرفع شعار “أميركا أولا”، ولا يهتم لسبل ملء الخزينة الأميركية.
الحكومة البريطانية ورغم الصداقة الحميمة بين بوريس جونسون وترامب، هنأت الرئيس الجديد جو بايدن أيضا. ربما هو الانتقام من مماطلة ترامب في توقيع اتفاق التجارة الحرة مع المملكة المتحدة، أو هو إدراك مسبق للندن بأن مواجهة الأكثرية الديمقراطية في مجلس النواب الأميركي قد تبدد فرص إبرام الاتفاق مستقبلا.
قد يتعثر إبرام اتفاق التجارة الحرة بين لندن وواشنطن إن وصل بايدن إلى البيت الأبيض، ولكن لا يمكن القول أبدا إن التحالف الاستراتيجي الممتد لعقود بين الطرفين سيتلاشى، أو إن البريطانيين لا يملكون المفاتيح والأدوات اللازمة للحوار مع الديمقراطيين الأميركيين والتفاهم معهم في الاقتصاد والسياسة والأمن وغيرها من الملفات.
وسواء انتقاما من ترامب “الشرير” أو خوفا من بايدن “الطيب”، ما صدر من ردود فعل على الانتخابات الأميركية عكس حجم التأثير المتعاظم للولايات المتحدة في رسم السياسة الخارجية والداخلية لكثير من الدول. وهو ما يهمش بفجاجة كل النظريات التي تدعي بأن العالم قد تغير وبات متعدد الأقطاب في القوة والنفوذ.
لا تزال الولايات المتحدة شرطي العالم وناظم السياسة الدولية، والبيت الأبيض هو بمثابة قمرة القيادة. صحيح أن الربان يتغير كل أربع أو ثماني سنوات بحد أقصى، ولكن الذين يصنعون السياسات الأميركية يستمرون لأكثر من ذلك. والتغيير في هذه السياسات لا يحمل توقيع شخص واحد وإنما أختام مؤسسات دولة عظمى.