فاروق يوسف يكتب:
الفن في مواجهة الموت
منذ أن غزا فايروس كوفيد-19 والبشرية تتحدث. ليس هناك ما يشغلها سوى ذلك المزيج الغريب من العلم وقد وضع قناعه على وجهه الطبي والسياسة وقد تخلت عن خرائط حروبها القديمة.
هناك حرب عالمية من نوع جديد بدأت ولا أحد يعرف متى تنتهي. حرب تشبه الحروب في تلك الصفة فقط غير أنها تختلف عنها في كل صفاتها الأخرى. الجيوش دخلت إلى المعركة غير أنها بدت تائهة بسبب انعدام الرؤية. إضافة إلى أنه ليس هناك هدف ليُقصف فيما بدت المدن كلها مفتوحة أمام الغزاة.
الهزيمة وقعت قبل أن يتخذ السياسيون قراراتهم. اما رجال الاقتصاد فإنهم اختبأوا خلف أطنان الكتب النظرية التي توقعوا أن الحريق قد محا كل سطورها بدخانه غير المرئي، بالرغم من أن أثره كان واضحا في كل مكان. وكان الوقت ضيقا لكي تتسلل سطور جديدة إلى تلك الكتب لتمحو عار السطور القديمة.
كان رجال السياسة أول المهزومين بالرغم من أن عددا منهم سعى إلى أن يكشف عن موهبة جديدة يملكها يمكن تلخيصها باللعب على الحبل في حديقة الجيران. هو ما أفشلته رياح الفايروس التي تخطت أفواه وأنوف المسافرين وصارت تتنقل بطائرات شركاتها الخاصة التي لا تُرى بالعين المجردة.
عري الإنسانية بدا أكثر وضوحا من أية مرحلة سابقة. كانت الفضيحة نفسها قد جلست عارية تتأمل نفسها في العيون المذعورة التي لم تعد مرآة لشيء بعينه.
تخلت الأسلحة عن الإنسان وخيبت آماله ولم يعد أحد سيد نفسه. كانت فكرة أن يعتصم الناس ببيوتهم بدائية إلى درجة أن الإنسان صار ينظر إلى ماضيه المكتظ بالعبقريات باعتباره كيس هواء ليس إلا.
يومها التفت البشر إلى الفن بعد أن تراجعت الخرافة لتحل محلها نظرية المؤامرة مؤقتا ولتنسحب في ما بعد بتأثير قوافل الموت التي لم تستثن أحدا من الجنس البشري.
ولكن ما الذي يقوله الفن؟
لا شيء. لا يريد الفن أن يغدر بهويته ويكون خادما للشائعات فيصورها.
في بعض البلدان التي استعاد فيها البشر جزءا من عاداتهم القديمة لم يلتفت البشر إلى ما يمكن أن يُقال من قبل المؤسسات المعنية التي بدت خاوية لشدة ما ارتبط حديثها بالموت المتاح.
"لنجرب الفن إذاً" لا شفاء لا علاج ولا وقاية. لكن ليجيب على أسئلة الروح والجسد معا بعد أن صارا الشيء نفسه. لن يكون الأمر على الدرجة من التشاؤم التي يفكر من خلالها تجار الجملة.
"ما الذي فعلته أثناء فترة الحجر المنزلي؟"
سؤال يمكن أن لا يترك أثرا. سيعبر خفيفا مثلما صارت أنباء الموت. ولكنه يظل سببا مقنعا للتلاقي. وهو ما جعل الفنانين البحرينيين يبادرون إلى المشاركة في أول معرض من نوعه في المنطقة.
"الحجر الكبير" هو عنوان ذلك المعرض الذي يُقام في قاعة عمارة بن مطر التابعة لمركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة وهو صرح ثقافي متعدد النشاطات والاهتمامات.
الفكرة تكمن في أن أحدا لم يفكر في الموت الذي يقف عند الباب. المسألة لا تتعلق بالاستسلام أو يمكنها أن تكون جزءا من فلم رعب يتحدث أبطاله فيما بينهم عن طريق الهذيان الداخلي.
الفكرة أنك تترك الموت ورائك كما لو أنك قررت أن لا تكون معنيا بثقل الخسائر التي صار الإعلام يرسم بسببها صورة معتمة لعالم الغد. الفن يقول شيئا آخر. سيكون هناك غد مشرق لكنه من نوع مختلف لم نعهده من قبل. لقد تغيرت البشرية. تغيرت لأنها لم تعد مضطرة إلى تبرير أو تفسير حقها في العيش.
عند هذا المستوى وقف فنانو البحرين الذين ينتمي معظمهم إلى جيل الشباب كما أن النساء قد سيطرن على الجزء الأكبر من مساحة المعرض.
"الحجر الكبير" معرض جريء لأنه:
أولا لا يتحدث عن الموت وليس في مزاجه ما يدعو إلى التشاؤم.
ثانيا لا يلتفت إلى ما جرى ويجري من حوله بغضب ولا يستسلم للعنف الذي لم يثنه عن المضي في اتجاه أهدافه بسلام.
ومثلما أسلوب مواجهة الموت كان جديدا هذه المرة فقد اخترق الفنانون أساليبهم حين عبثوا بكل شيء فكانت لهم أساليب فن جديدة. أساليب يحق لهم بعدها أن يقولوا بدهشة "كم تغيرنا".
ذلك واحد من أهم أهداف هذا المعرض الكبير. أن يتعرف الفنانون على أنفسهم من جديد كما لو أنهم كائنات نساها الموت فصارت تلعب بحرية في الوقت الضائع.