د.علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):

وصية واعتذار إلى ابني باسل !!

ابني العزيز: اكتب لك ولجيلك وصيتي واعتذاري لأنك ولدت خارج وطنك وبلغت سن الشباب ولم تتعرف على وطنك " الجنوب العربي " ، ولم تسمح لك الظروف حتى بزيارته وزيارة مساكن أجدادك والتعرف على أطلال الماضي !!
وتدور في رأسك أسئلة كثيرة دون إجابة ، وأقول لك اليوم أنني لا أملك إلا جزء يسيرا من الحقيقة أقدمها لك ومعك كل إخوانك بل جيلكم كله .. لتطلعوا عليها بكل صدق وما خفي كان أعظم ... وحتما ستصيبني سهام المتعصبين ونبال المكابرين ممن تسببوا في نكبة الجنوب الذين سيتنكرون لوقائع التاريخ وأحداثه لأنهم جبلوا على تفسيره وفق أهوائهم وحدهم والذي لا زالت أصداء شعاراتهم تتردد في أسماعنا عندما يعلو صراخهم من الماضي السحيق بالقول " لا صوت يعلو فوق صوت الحزب "!!
و سواء كنت حيا أو ميتا، لن يترددوا في رجمي بالحجارة أو بسهام الغيب سواء كنت على ظهر الأرض أو تحتها في قبري.. لأنني أقول الحقيقة على جيلنا والأجيال التي سبقتنا ممن عاصروا تلك الأحداث وارتداداتها التي عصفت ببلادنا في التاريخ الحديث منذ بداية القرن العشرين .. سواء في اليمن أو الجنوب العربي ولا أبرئ أحدا منها عندما طالت المصائب والنكبات تلك الأجيال وأصابتها في مقتل ولا زالت تجر أذيال الحروب والفتن بيننا حتى اليوم ، ونتج عنها ليس ضياع الجنوب فقط بل ضاعت معه عدة أجيال ،والسبب هو تفرقنا وتمزقنا وعدم انصهارنا في كيان واحد موحد حيث كان في الجنوب أكثر من 20 سلطنة وإمارة ، رغم أننا كنا نتجول دون هوية أو بطاقات شخصية بين تلك الكيانات التي كانت تتصارع فيما بينها ،ولم يتفق حكامنا فيما بينهم للانصهار في كيان واحد ورئيس واحد وعلم واحد، ولم يستفد حكامنا ولم يعتبروا من خبرة الملك عبد العزيز آل سعود الذي استطاع أن يوحد هذا الكيان العملاق والأراضي الشاسعة المترامية الأطراف ( المملكة العربية السعودية ) بكل تضاريسها الوعرة وصحاريها الشاسعة ومناخها الصحراوي وشحة مواردها ، وبحنكته وحكمته استطاع الملك عبدالعزيز آل سعود طيب الله ثراه أن يصهرها في كيان واحد ،وتمكن من جلب الشركات الأمريكية التي اكتشفت الذهب الأسود وقامت نهضة المملكة و مجدها وسؤددها على كتاب الله وسنة رسوله ،ولحقت بها دول الخليج الأخرى ونهضت هي الأخرى ، وبقي اليمن وحده يصارع الجوع والفقر والمرض والحروب ، وكذلك بقي الجنوب يعاني من التشظي والانقسام واليوم وبعد هذه المقدمة أقول لك يابني :
إنني لا أملك إلا قلمي وحروف الأبجدية وما يمليه علي ضميري ووجداني أعترف لك أن جيلنا والأجيال التي سبقتنا منذ بداية القرن العشرين أننا جميعا شركاء في إدخال بلادنا هذا النفق المظلم ولم نتمكن من الخروج منه حتى اليوم .. وإن جيلنا ضحية الجيل الذي قبله لأنه ساهم في تطبيقها ونحن صدقناه وصفقنا له !!
وقد أجد العذر لأجدادنا للجهل المنتشر في زمنهم ولكنهم كانوا أكثر حكمة في قياس الربح والخسارة ممن كانوا أصغر سنا منهم .. وكانوا أكثر حرصا عند تعاملهم مع نظام الأئمة وكانوا أكثر حذرا من الثورات والانقلابات التي هيمن فيها العسكر على مصر والعراق وسوريا واليمن عكس الجيل الذي جاء بعدهم ولا يملك سوى القليل الخبرة و جرفه الحماس وفورة الشباب و كان ضحية الإعلام المضلل والأناشيد الثورية وإذاعة صوت العرب وصوت مديرها صاحب الحنجرة الذهبية الأستاذ أحمد سعيد !!
وعندما كنا صغارا في الستينات كنا نتأثر بخطابات عبد الناصر وصوت العرب ولكن التحولات الجذرية جاءت إلينا بعد تدخل القوات المصرية في اليمن .. وتسابق الجيل الذي سبقنا نحو صنعاء وكان معهم في طليعة المهرولين بعض رجال القبائل الموتورين وشلل من الشباب التي تتصف بالرعونة والغباء السياسي والفاشلين في حياتهم وتركوا الجنوب خلف ظهورهم بل وقلبوا له ظهر المجن ولم ينصتوا لنصح الحكماء والعقلاء وذهبت نصائحهم أدراج الرياح .. ونقلوا حرفيا أفكار جورج حبش ونايف حواتمه وشكلوا ثقافة سطحية مكونة من خليط متناقض مكون من اليسار العربي والتجربة الماويه في الصين بالإضافة إلى التجربة الروسية ،والكوبية وأوربا الشرقية و تشكل من ذلك الخليط الفكري ولادة جنين مشوه فرخ عدة تيارات فكرية متناقضة داخله يسمى "الجبهة القومية" نفسها التي تحالفت لاحقا مع الانجليز على أن يسلمها وحدها فقط حكم الجنوب منفردة دون سائر الأحزاب الوطنية الأخرى ، وفي وسط بيئة قبلية مشحونة بالثارات والأحقاد والإرهاصات المتراكمة فيما بينها تحالفت تلك المكونات الجنوبية مع الطامعين من اليمن الذين كان هدفهم الأول والأخير التسلل لهدم الكيان الجنوبي الذي حاولت بريطانيا في أواخر الخمسينيات أن تجمع فيه كل الإمارات الجنوبية المتفرقة في كيان واحد خاصة في المنطقة الغربية تحت مسمى اتحاد الجنوب العربي ، أما سلطنتي الكثيري والقعيطي والمهرة فقد أبقتها بريطانيا خارج الاتحاد لحاجة في نفس يعقوب.. !!

ابني العزيز :
أنا أعلم وأشعر أن أسئلة كثيرة تزدحم في رأسك يحتار فيها عقلك وتحتاج إلى تفسير وتوضيح مقنع من جيلنا نحن الآباء .. وأقول لك بكل صراحة أن ما فعله أولئك الثائرون الحمقى الذين قبلوا أن يكونوا أداة سيئة لتمرير أجندات المستعمرين سواء غربا أو شرقا لاحقا وارتضوا أن يكونوا مقصلة إعدام لكل الخيرين من أبناء جلدتهم ممن يملكون نواصي الخير والحكمة .. وبحماقاتهم قهروا كل سنين البناء والتنمية التي كانت تداعب أحلامنا و تبخرت على وقع المسيرات والاختطافات القسرية والإعدامات العلنية لإرهاب شعب حر يعشق الحرية ويسخر من قادته الذين يحاولون محو تاريخه من ذاكرته الجمعية وطمس أمجاده في ظل حكم قمعي شيوعي يسحق ويدمر كل من يعترضه !!
لا تكرهني يا بني فقد كتبت بقسوة وتمنيت ورجوت.. وخاب أملي و رجائي. وها أنا اليوم أبكي كما فعل أبو عبدالله الصغير عندما أخرج حربا وقسرا من غرناطة وقالت له أمه :( ابكِ مِثلَ النساءِ مُلكاً مُضاعاً لم تُحافظ عليه مِثلَ الرِّجَالِ)
وما أشبه الليلة بالبارحة وعندما تضيع الأوطان يموت الرجال قهرا وها نحن اليوم نذوي في المهاجر كما تذوي الزنابق ونموت كالأشجار عندما تموت واقفة !!
أُبني العزيز : كن قويا بما يكفي للحفاظ على وطنك الجنوب العربي ومستقبلك، فربما يكون فيك وأبناء جيلك قائدٌ يعيد للجنوب أمجاده وتاريخه وألقه وضيائه وحينما تفعلون ذلك لا تسلموه للجبناء والعملاء والخونة والسماسرة حتى لا يبيعوه من جديد ،وعضوا عليه بالنواجذ للحفاظ عليه وإعادة تاريخه وأمجاده .
أبني العزيز :
ختاما أقول لك حين تقرأ وصيتي ربما قد أكون في رحاب الله وأطلب منك أن تنقش على قبري "هذا والدي الذي كان ضعيفاً وهو يشاهد وطنه يدمر ويسحق ولم يجرؤ على شي سوى الكتابة والاعتذار".
ولا تكتب أسمي على الشاهد. دعني مجهولاً فقد كنا مجهولين في حياتنا ومماتنا أيضاً. إننا جيل الجهل والثورة والفوضى و مزقنا بلدنا بأيدينا!!
د. علوي عمر بن فريد