سالم الكتبي يكتب:
عمالقة التكنولوجيا وصراع المحتوى الإعلامي
بعيداً عن متون وتفاصيل الجدل السياسي المحتدم في الولايات المتحدة حول تحديد مصير الرئيس السابق دونالد ترامب، كشف المشهد الأميركي عن حقائق جديدة في غاية الأهمية، وفي مقدمتها هذا النفوذ الهائل لشبكات التواصل الاجتماعي “السوشيال ميديا” التي أصبحت بالفعل تمتلك سلطة متزايدة حتى على رئيس أكبر دولة في العالم!
الربط بين موقع “تويتر” وترامب ليس جديداً، فمنذ بداية حملته الانتخابية في عام 2016، راهن ترامب على منصة “تويتر” للوصول إلى قاعدته الانتخابية والعالم أجمع، ولكن الأشهر الأخيرة شهدت توترات بالغة في العلاقة بين ترامب ومنابره الإعلامية المفضلة على “السوشيال ميديا”، لاسيما بعد أن تبنت إدارتا موقعي “تويتر” و”فيسبوك” مواقف حازمة إزاء ما ينشره ترامب عبر المنصتين الشهيرتين، حيث وضعتا إشارة توحي بأن منشوراته عبارة عن “محتوى مٌضلل” بسبب ادعاءاته حول الفوز بالانتخابات الرئاسية الأميركية، وانتهى الأمر بحظر تام لحسابات ترامب بسبب ما وصف بانتهاكه لقواعد النشر المعمول بها في هذه المنصات، وذلك عقب أحداث العنف التي صاحبت اقتحام مؤيديه لمقر الكونغرس في السادس من يناير الجاري.
ترامب نجح في ترسيخ منصته المفضلة واستغلالها في الضغط على خصوم الولايات المتحدة ومنافسيها والمراوحة بين التهديد والمهادنة من دون تكبد كلفة سياسية كبيرة
وبين اتهام خبراء لمنصات التواصل الاجتماعي بالتدخل ضد حرية التعبير، واتهامات أخرى بالتساهل والسماح لدعاة الفوضى والعنف بنشر آرائهم وتحريضهم، وأخرى بتباطؤ شركات التكنولوجيا في التدخل لوقف لغة التحريض على العنف التي اتبعها ترامب في شحن أنصاره ومؤيديه، تبقى هذه الوقائع خير شاهد على بزوغ مفهوم جديد للسلطة والنفوذ في النظام العالمي القائم، وهي سلطة التكنولوجيا وشركاتها العملاقة، التي بات بإمكانها لعب دور فاعل في صنع السياسات الداخلية بل والعلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين.
ولا يخفى على أحد أن العالم ظل طيلة السنوات الأربع الماضية يستيقظ على ما ينشره ترامب من تغريدات بكلمات قلائل عبر موقع “تويتر”، حيث كانت هذه التغريدات تشكل بوصلة السياسة الأميركية حيال العالم خلال هذه السنوات، وانتهى الأمر إلى أن يتحكم الموقع نفسه في قدرة الرئيس الأميركي على النفاذ إلى مؤيديه وعالمه الخاص، لتصبح “الوسيلة” هي “الرسالة” وتثبت أن دورها أخطر وأهم من القائم بالاتصال!
علاقة ترامب وتأثيره عبر موقع “تويتر” لم يكونا استثنائيين، فهو لم يتصدر قائمة المئة شخص الأكثر تأثيراً، بناء على عدد متابعيه، بل كان الرئيس الأسبق باراك أوباما يفوقه في ذلك، ولكن ترامب تفوق بعد ذلك بحكم اعتماده المطلق على “تويتر” كوسيلة تواصل مع الرأي العام والتعبير عن مواقفه واتجاهاته حيال القضايا والموضوعات المختلفة، حتى أن الموقع أصبح مثل منصة وحيدة غير رسمية لترامب!
والكل يعلم أن السبب الرئيسي لاعتماد ترامب على وسائل التواصل الاجتماعي يكمن في سوء علاقته بالإعلام التقليدي الأميركي، لاسيما الشبكات الأكثر شهرة مثل “سي.إن.إن” وغيرها، حيث كان يتهم الصحف وشبكات التلفزيون التي يعتبرها معادية له بالتخصص في بث ونشر الأخبار الكاذبة والمتحيزة ضده، ومع ذلك يمكن التأكيد على أن ترامب قد نجح في توظيف “تغريداته” في الوصول مباشرة إلى الرأي العام الأميركي طيلة فترة رئاسته، ناهيك عن فاعلية هذه التغريدات في صياغة أجندة الحوارات اليومية الدائرة عبر وسائل الإعلام الأميركية، حيث كان يصعب على الجميع القفز على محتوى معظم هذه التغريدات وتجاهلها في النقاشات والحوارات السياسية اليومية.
صحيح أن “تغريدات” ترامب قد أزعجت العواصم العالمية خلال فترة رئاسته كون منصة “تويتر” تحولت إلى منصة التعبير عن السياسة الخارجية الأميركية بدلاً من أدوات الدبلوماسية التقليدية المعتادة، ولكن ترامب قد نجح في ترسيخ منصته المفضلة واستغلالها في الضغط على خصوم الولايات المتحدة ومنافسيها والمراوحة بين التهديد والمهادنة من دون تكبد كلفة سياسية كبيرة، كما هو الحال في الدبلوماسية المعتادة، وهنا يمكن الإشارة إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي قد استفادت من حالة الجدل العالمي التي رافقت فترة رئاسة ترامب في ترسيخ دورها في عالم السياسة، كأحد المحركات المؤثرة في العلاقات الدولية، واستطاعت سحب البساط من تحت أقدام الإعلام التقليدي الأميركي، الذي كان يمثل أحد روافد القوة الناعمة الأميركية في أوقات سابقة.
والحقيقة أن ترامب قد لعب دوراً كبيراً في نمو دور موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” وزيادة تأثيره بل وقيمته السوقية بشكل هائل، حتى أن بعض التقديرات كانت تشير إلى أن “تويتر” يمكن أن يخسر 20 في المئة من قيمته السوقية من دون تغريدات ترامب، وقد ثبت ذلك بالفعل حين خسر الموقع نحو 5 مليارات دولارات من قيمته بمجرد الإعلان عن وقف حساب ترامب نهائياً عقب أحداث الكونغرس، وهو ما قد يبرر حرص إدارة الموقع على عدم الاصطدام بترامب إبان فترة رئاسته، حيث يلاحظ أنها لم تحذف من قبل تغريدات وجه فيها إهانات لرؤساء دول وزعماء آخرين.
وفي ضوء ما سبق، سيظل منع ترامب من استخدام أشهر منصات التواصل الاجتماعي (تويتر وفيسبوك وإنستغرام وسناب شات ويوتيوب) مثيراً للجدل، حتى أن بعض منتقديه من القادة الأوروبيين لم يكونوا راضين تماماً عن هذه الخطوة، التي وصفتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بأنها “إشكالية”، بينما قال مفوض الاتحاد الأوروبي تيري بريتون أن قيام رئيس تنفيذي لمؤسسة بإيقاف صوت الرئيس الأميركي وحظر أنشطته عبر مواقع التواصل الاجتماعي “من دون تدقيق ولا توازنات أمر مربك ومحير”. وقال وزير الصحة البريطاني مات هانكوك، إن شبكات التواصل الاجتماعي “تتخذ الآن قرارات تحريرية”، مضيفاً أن منصاتها باتت “تختار من يجب أن يكون أو لا يكون له صوت”.
راهن ترامب على منصة "تويتر" للوصول إلى قاعدته الانتخابية والعالم أجمع، ولكن الأشهر الأخيرة شهدت توترات بالغة في العلاقة بين ترامب ومنابره الإعلامية المفضلة على "السوشيال ميديا"
وفي ذلك يقول مؤيّدو قرار الحظر إن شبكات التواصل الاجتماعي هي شركات خاصة يحق لها وضع قواعد ومعايير لعملائها، بينما يعترض الكثيرون على منح مارك زوكربيرغ (مؤسس فيسبوك) أو جاك دورسي (مؤسس تويتر) مهمة الرقابة الجديدة على المحتوى الذي يتلقاه الجمهور، وبين هذا وذاك فإن الموضوعية تقتضي القول إن التدخل لمنع كارثة تفاقم العنف وزيادة الحشود خلال أحداث الكونغرس كان قراراً صائباً ولا يجب النظر إليه من منظور أحادي ضيق، فأمن واستقرار الدول يجب أن يعلو فوق أي اعتبارات أخرى حين يصبح الأمر على المحك في مثل هذه الظروف الحساسة للغاية. ويجب الإشارة هنا إلى أن شركات التكنولوجيا قد بدأت إجراءات صارمة ضد العديد من القادة منذ تفشي وباء كورونا، حيث انتشرت نظرية المؤامرة بشكل واسع، وحذف موقعا فيسبوك وتويتر منشورات للرئيس البرازيلي جايير بولسونارو والرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، بسبب طرحهما لما قيل إنه معلومات مضللة عن كوفيد – 19.
وبشكل عام، ورغم الحذر البالغ لشركات التكنولوجيا في التعامل مع محتوى تغريدات ترامب، فإن واقعة حظره ستكون منعطفاً مهماً في تاريخ عمالقة التكنولوجيا وطريقة التعامل مع المحتوى المنشور، حيث يتوقع أن تسلط الأضواء مجدداً على القوانين التي تعفي شبكات التواصل الاجتماعي من المساءلة القانونية بشأن منشورات مستخدميها، حيث تبقى هذه الحماية القانونية للشركات مثار جدل كبير، وقد ينتهي الأمر إلى إلغائها لدفع هذه الشركات لزيادة مراقبة المحتوى وإحكام الرقابة عليها بحيث يعود زمام الأمور مجدداً إلى الدول والحكومات.