مختار الدبابي يكتب:

المشيشي واجهة صراع بين الغنوشي وقيس سعيد

يتحرّك رئيس الحكومة التونسية هشام المشيشي في كل اتجاه لإظهار أن موقفه القانوني سليم، ويريد أن يفرض تعديله الوزاري على الرئيس قيس سعيد. وبعد استشارة المحكمة الإدارية، وهيئة مراقبة دستورية القوانين، استقبل المشيشي مجموعة من أساتذة القانون في الجامعة التونسية ليستفتيهم في الطريقة التي يمكنه من خلالها تمرير التعديل الوزاري دون الحاجة إلى أداء اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية الذي أغلق الباب أمامه بشكل بات.

ما لم يفهمه المشيشي أن الصراع ليس بينه وبين قيس سعيد، وأن الرئيس يعاقبه لأنه خرج عن طوعه واحتمى بخصمه رئيس البرلمان راشد الغنوشي، وأنه مادام مرور التعديل انتصارا للغنوشي والحزام السياسي المعادي لقيس سعيد فلا أمل لحل هذه الأزمة وديا في القريب العاجل، وأن الحلول قد تكون في انتخابات برلمانية سابقة لأوانها.

وحتى هذه فلن تحلّ المشكلة لأنها قد تعيد بناء مشهد برلماني يسيطر عليه خصوم الرئيس سعيد، ونعود إلى نفس المربع. ولذلك سيكون من الأسلم أن تكون هناك انتخابات رئاسية وبرلمانية سابقة لأوانها، على أن يتم قبلها تأمين استفتاء على شكل النظام السياسي وعدم الاكتفاء بتعديلات ثانوية تعيد إنتاج نفس المنظومة.

وما يزيد من تعقيد الأزمة أنها لا تدار من وراء الكواليس كما حصل في خلاف الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي مع رئيس حكومته يوسف الشاهد، حيث جرى التكتم على تفاصيل الخلاف إلى اللحظة التي اختار فيها السبسي مصلحة الدولة على تلك التفاصيل وسمح بتمرير التعديل الوزاري وفتح الباب أمام الشاهد ليفعل ما تخوله له صلاحياته حسب الدستور.

الوضع الآن مغاير تماما، فتفاصيل الخلاف وأسراره كلها منشورة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما يجعل من المستحيل تطويق الأزمة بأي شكل من الأشكال، خاصة أن قيس سعيد والمشيشي صارا طرفا مباشرا فيها كمن يتولى إدارة حفلة وينوّع من فقراتها بين الفينة والأخرى.

والأزمة مرشحة للمزيد من التوتر لاعتبارات عدة منها أن رئيس الجمهورية يرى فيها معركة شخصية يريد من خلالها إظهار أنه قوي ومالك لمفاتيح السلطة عكس محاولات تهميشه والتقليل من قيمة دوره ووصفه بالرمزي مثلما قال الغنوشي.

ومنذ أكثر من سنة تعيش تونس على وقع معركة الصلاحيات، كلّ يصبّ الزيت على النار من ناحيته ويدير من وراء ستار معركة إعلامية حامية لإظهار أنه الأقوى، في الوقت الذي يفرض فيه النظام السياسي سلطة بثلاثة رؤوس، وصنع دستور 2014 فخاخا كثيرة من الصعب على أي كان تفكيكها وتحويلها لصالحه.

وكان من نتيجة هذا الصراع تعطيل مصالح البلاد، وتأجيل حل ملفاتها الداخلية خاصة القضايا الاقتصادية والاجتماعية، كذلك تهميش دورها الخارجي في ظل غياب رئيس الجمهورية عن المناسبات الدولية المختلفة التي تسمح له ببناء علاقات قد تساهم في جلب الاستثمارات وخاصة الحصول على اللقاحات الكافية في وقت مبكر من العام الجديد.

وفي غياب مرجع قانوني يمكن أن يتم اللجوء إليه لحسم الخلاف، يريد قيس سعيد أن يلعب دور الخصم والقاضي في نفس الوقت بسبب غياب المحكمة الدستورية. وزاد هذا المسار تعقيدا بعد أن بات الرئيس سعيد يشعر بأن منظومة الحكم الحالية تريد أن تقطع الطريق أمام حصوله على صلاحيات واضحة للمشاركة في الحكم بشكل عملي وليس بشكل رمزي.

ومن البداية، بات هدف الرئيس سعيد تطويع الصلاحيات لمواجهة مساعي الغنوشي لتهميشه، وهي مساعٍ بدأت مبكرا من خلال محاولات وضع اليد على دوره الدبلوماسي وجرّه إلى مربع تحالف قطر وتركيا، ثم الآن منعه من أن يلعب دور مؤوّل الدستور في غياب المحكمة الدستورية. وقد خرج الصراع من الواجهة الثنائية إلى بناء تحالفات حزبية وفرز شعبي قد يكون محددا في انتخابات 2024، لكن مع القفز على حقيقة أن البلاد لا تتحمل معارك جديدة خاصة إذا كانت تقوم على استنفار الشارع، فهي ورقة لا أحد يقدر على الإمساك بها بشكل دائم.

ومن العناصر الواضحة لاستمرار هذا التصعيد هو غياب جهة ذات وزن قادرة على الوساطة وإدارة حوار لحل الخلاف بين الرئيس وحزامه الثوري، وبين المشيشي والغنوشي وحزامهما السياسي، خاصة بعد فشل مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل بشأن الحوار الوطني.

وقد مثلت المبادرة فرصة للتهدئة وجلب الخصوم إلى طاولة الحوار، لكن قيس سعيد لم يكن متحمسا لها، وإن كان أظهر وكأنه موافق عليها شريطة تشريك الشباب من مختلف محافظات البلاد في هذا الحوار، وهو أمر ليس ممكنا عمليا إلا إذا كان من بوابة الأحزاب والمنظمات القائمة، وهو ما لا يرتاح له الرئيس سعيد الذي يريد إشراك الشباب من التنسيقيات الداعمة له، وأن يكون نواة لبناء منظومة للحكم تنطلق من أسفل إلى أعلى وليس العكس.

والنتيجة أن قيادات اتحاد الشغل باتت شبه يائسة من حوار يرعاه رئيس الجمهورية ويضم مختلف الأطياف ويقود إلى تنازلات تمتص حالة الاستنفار وتفتح الطريق أمام معالجة القضايا الرئيسية للبلاد، وهي قضايا مهملة في الوقت الذي يأخذ فيه الصراع السياسي الأولوية في مختلف مؤسسات الدولة.

وباتت الأنظار معلّقة على الوساطة الخارجية التي ربما تقدر على تحقيق ما عجز عنه الاتحاد، لكن ليس هناك أي جهة محايدة في الصراع تبدو مهتمة بالملف التونسي، وربما تكون الجزائر هي الأقرب لهذا الدور لكن لديها قضاياها الداخلية، فضلا عن الوضع الصحي لرئيسها عبدالمجيد تبون.

مع ملاحظة أنه حتى لو تنازل المشيشي لتمرير التعديل الدستوري (مثل تغيير الوزراء الذين تُثار حولهم شبهات، أو الاكتفاء بحكومة مصغرة) فليس هناك ما يؤشر على تهدئة قادمة، لأن قيس سعيد يريد القصاص ممن يعتبر أنه خانه وبدأ يتصرّف كرئيس حكومة بدل وزير أول تنفيذي لدى رئيس الجمهورية.

وأيضا حتى لو استقال المشيشي، فلن تهدأ الأزمة سواء عادت المبادرة إلى قيس سعيد لتكليف رئيس حكومة جديد (لا أحد يضمن أن يتمرد ثانية مستفيدا من صلاحياته الدستورية) أو عادت إلى البرلمان. فأي رئيس حكومة قادم سيكون واجهة لمعركة بين الغنوشي وسعيد ونعود إلى المربع الأول.