صالح البيضاني يكتب:
ثورة التغيير اليمنية.. زوايا مختلفة
في فبراير من كل عام يتجدد الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي بين اليمنيين حول ذكرى الاحتجاجات التي اندلعت في 11 فبراير عام 2011 ضد الرئيس الراحل علي عبدالله صالح. وفي المشهد العام يحتفل فصيلان أساسيان بالمناسبة باعتبارها “ثورة شعبية” أطاحت بنظام صالح. ويتصدر مشهد المحتفلين الجماعة الحوثية وأنصار حزب الإصلاح اليمني بالدرجة الأولى، إضافة إلى ناشطين من فصائل ومكونات قومية ويسارية أخرى شاركت تحت عباءة ما يسمى “اللقاء المشترك” في الاحتجاجات التي انتهت بتخلي صالح عن السلطة ودخول اليمن في مرحلة انتقالية وحوار وطني لم يكتب له النجاح نتيجة الانقلاب الحوثي الذي اختطف الدولة ومؤسساتها بعد ذلك.
وفي الجهة المقابلة يجدد أنصار صالح رفضهم الاحتفال بالمناسبة بوصفها كارثة أو “نكبة”، كما يحلو لهم تسميتها، قادت اليمن إلى المشهد الدامي الذي يعيشه اليوم بين ركام الحرب والمجاعة والانقسام الاجتماعي والتشظي السياسي والجهوي.
ويسوق كل طرف مبرراته في سياق هذا السجال للتأكيد على صواب رؤيته، فيما يبدو أن هذا الصراع الكلامي العقيم لم يعد يرق لمعظم اليمنيين الخوض فيه بقدر بحثهم عن شعاع أمل يخرجهم من الوضع الكارثي المتفاقم الذي تعيشيه البلاد بعد ست سنوات من الحرب وعشر سنوات من الفوضى السياسية التي خلفت في نهاية المطاف واقعا شديد التعقيد يصعب تفكيكه، وعسير على الحل ربما لجيل قادم بالنظر إلى بروز أبعاد دولية وإقليمية على صعيد التداعيات الخارجية للأزمة اليمنية، وتفشي مظاهر طائفية ومناطقية ومذهبية مقلقة ألقت بظلالها على حالة الانسجام التي عرفها اليمن نسبيا خلال العقود الماضية كبلد يتسم بنوع من التجانس بين مختلف فئاته الاجتماعية والمذهبية.
وترافقت الخلافات المحيطة بذكرى فبراير هذا العام الذي يصادف الذكرى العاشرة لاحتجاجات فبراير اليمنية مع جملة من المتناقضات التي باتت طابعا يميز المشهد اليمني، حيث احتفى المتحاربون بالمناسبة من الجانبين. كما أطلقت الألعاب النارية من الجزء المحرر من مدينة تعز التي ما زال سكانها يعانون من حصار الميليشيات الحوثية الخانق للمدينة ونيران قناصتهم. واحتفلت “الميليشيات” كذلك بالمناسبة التي خرجت منها كرابح أكبر كما تقول حسابات الربح والخسارة السياسية.
بعد مرور عشر سنوات من احتجاجات فبراير أو “الثورة الشبابية السلمية” يبدو أن النظرة إلى مآلات هذه الثورة ونتائجها ما زال يغلب عليها طابع النفعية وغياب التقييم المنطقي الخالي من العواطف والأحقاد مع تصدر فريقين من الرابحين والخاسرين للمشهد مجددا
وبعيدا عن سجالات مواقع التواصل الاجتماعي ومحاولة كل طرف حشد مبرراته التي تجعل من ذكرى فبراير “ثورة” عظيمة أو “نكبة” فاجعة، لا يغير ذلك من وجود أربع زوايا رئيسية نظر من خلالها الفرقاء اليمنيون إلى احتجاجات فبراير في ذروتها في مطلع العام 2011، حيث التقت مصالح الأحزاب المنضوية تحت لافتة “اللقاء المشترك” وفي مقدمتها الإخوان المسلمون والقوميون والناصريون مع مصالح قوى ومكونات أخرى لا يجمع بينها سوى تاريخ حافل من العداء مثل الحوثيين في أقصى شمال اليمن والحراك الجنوبي المطالب بالانفصال في الجنوب.
ولا ينفي ذلك وجود زاوية رابعة في مشهد “فبراير” اليمني كانت أكثر صدقا في مطالبتها بالتغيير، وتمثلت في طيف واسع من الشباب والمهنيين غير المتحزبين الذين تصدروا المشهد في البداية قبل أن تجرف أحلامهم النقية سيول الأحقاد والمطامع الشخصية التي برزت في مرحلة لاحقة، وكادت تقود المشهد السلمي نحو حرب أهلية تم كبحها عبر حالة التوازن في القوة بين الأطراف والضغوطات الدولية واختتم ذلك بالمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية التي وضعت سيناريو سلسا لانتقال السلطة وتقاسم المكونات التقليدية ومراكز القوى للحكومة، فيما ترك كثير من الشباب يكابدون آلام أحلامهم المبددة وجراحاتهم النفسية والجسدية التي ما زال البعض يعاني منها حتى اليوم.
وبعد مرور عشر سنوات من احتجاجات فبراير أو “الثورة الشبابية السلمية” يبدو أن النظرة إلى مآلات هذه الثورة ونتائجها ما زال يغلب عليها طابع النفعية وغياب التقييم المنطقي الخالي من العواطف والأحقاد مع تصدر فريقين من الرابحين والخاسرين للمشهد مجددا.
وبينما يحتفي الحوثيون بالثورة التي أوصلتهم إلى القصر الجمهوري بصنعاء، يحتفل العديد من السياسيين والناشطين على الضفة الأخرى ممن يمكن وصفهم بـ”ضحايا الانقلاب الحوثي” سواء بشكل مادي أو معنوي، ومن أولئك القيادات السياسية التي غادرت صنعاء وتمت مصادرة أملاكها، لكنها استطاعت تأسيس موطئ قدم لها في “الشرعية”، أو بعض الشباب الذين نقلتهم الأحداث من قاع التهميش إلى قمة السلطة أو الثروة كما هو الحال مع بعض الذين دأبوا كل عام على الاحتفاء بالثورة من العواصم الغربية حيث انتهى بهم المطاف في مشهد يصفه بعض زملائهم في الداخل بأنه تعبير نزق عن الاستفزاز والانتهازية مع ترديد بعضهم لشعارات من قبيل “الثورة مستمرة”!
وفي الحقيقة مع مرور كل عام ومع اتساع رقعة الأوجاع في المشهد اليمني، فقد كثير من الثوار الحقيقيين إيمانهم بالثورة بعد أن وجدوا أنها لم تحقق أيّا من أهدافها سوى إسقاط النظام، كما أنها لم تف بالحد الأدنى مما وعدت به البسطاء الذين شاركوا فيها بعيدا عن حمى الشعارات التي لم تشبعهم من جوع أو تؤمنهم من خوف، لينضموا إلى قائمة الساخطين التقليديين على الثورة الذين لا يفوتون مناسبة للمقارنة بين واقع اليمن الأقل سوءا بالأمس والأكثر سوءا بعد عشر سنوات من ثورة يقولون إنها لم تغير إلا حال بعض الذين امتطوا صهوتها وتحولوا من عاطلين عن العمل إلى أثرياء ومتنفذين وبائعي شعارات معسولة يرددونها بحماسة مفرطة من مدن المهجر التي يقيمون فيها هم وعائلاتهم.