صالح البيضاني يكتب:
قنابل موقوتة في ملف السلام اليمني الملغوم
لا يوازي تدفق الوسطاء والسفراء والمبعوثين الأمميين إلى اليمن إلا شحنات السلاح القادمة للحوثيين من إيران والتي باتت أعداد ما يتم ضبطه منها أعلى من أيّ وقت مضى، في رسالة دولية إلى الحوثيين بأن سياسة “عين مغمضة وأخرى مفتوحة” و”دع تلك الشحنة تمرّ”، لن تستمر في حال أصروا على إفشال آخر الوصفات الأممية لوقف الحرب في اليمن والشروع في خطة سلام على الطريقة الغربية في خياطة الأزمات الملتهبة في العالم الثالث وتركها تتعفن ببطء!
ومن يرصد طبيعة التحركات المتعلقة باليمن يدرك جيدا أن الأزمة اليمنية المزمنة باتت تمرّ اليوم بمنعطف قد يكون الأخطر، حيث تتهيأ للدخول في مسار جديد يقول عنه الوسطاء الدوليون إنه مسار السلام المحتمل ونهاية الحرب التي دخلت عامها الثامن دون أن يحرز أيّ من أطرافها انتصارا حاسما، بينما تقول الكثير من الشواهد على الأرض إن ما سيحدث في أحسن الأحوال هو تحديث لقواعد الحرب والصراع السياسي اليمني وإعادة تقنين لأبعاد هذا الصراع الإقليمية والدولية.
والحقيقة أن اليمن محظوظ أكثر من بلدان أخرى قريبة شهدت موجات من النزاع الدموي لأسباب تتعلق بموقعه الجيوسياسي وارتباطاته الإقليمية، فبعد ثماني سنوات عجاف من الحرب كان الكثير من المحللين السياسيين يعتقدون أن اليمن ذاهب إلى السيناريو الصومالي، حيث أدرك العالم الملل في نهاية المطاف من حرب لا تلوح نهايتها في الأفق وتركوا هذا البلد القابع في خاصرة القرن الأفريقي يصفّي حساباته الداخلية ويعيد إنتاج القوى المحلية ويستنفد طاقة الحرب القبلية والأيديولوجية بداخله.
يقف اليمن اليوم على مفترق طرق بين سلام هش وعودة محتملة لخيار الحرب، ولكن بقواعد جديدة وفي ظل تحولات هائلة في معسكر المناوئين للحوثي، وكذلك التغيرات التي طرأت على المزاج الدولي والإقليمي حيال هذه الحرب التي لا تختلف كثيرا عن حروب اليمن التي تتماوج فيها خارطة التحالفات وتتبدل فيها حدود الاصطفافات، وينتعش فيها سوق الرقيق السياسي وتزدهر خلالها تجارة الحرب.
أما عن نهاية الحروب التي عرفها اليمن خلال تاريخه الحديث والمعاصر فلا توجد حرب تم حسمها عسكريا واجتماعيا وثقافيا، بقدر ما كان يتم ترحيل بعض عوامل الصراع اليمني وتفكيك جبهاته ثم إعادة رسم الخارطة بما يسمح بإعادة إنتاج الصراع في مرحلة أخرى عندما تتهيأ الظروف المحلية والإقليمية، وهو الأمر الذي يبدو جليا أن الملف اليمني ذاهب إليه في حال تم التوافق على تسوية جديدة يجري التحضير لها في مسقط لإنهاء الحرب والشروع في حوار سياسي بين أطراف لم يعد لديها الكثير من المشتركات، بمقدار ما تمتلكه من حسابات وتكتيكات جديدة لا تنتمي إلى روح السلام الحقيقي.
وإذا ما تأملنا قليلا في قائمة التحديات التي تعترض طريق السلام في اليمن نجد أنها قائمة طويلة ومعقدة بعض الشيء، وفي مقدمة تلك العوائق طبيعة الصراع الأيديولوجي والجهوي والارتباطات الإقليمية للحرب اليمنية، حيث يحاول العالم اليوم إقناع جماعة عقائدية متصلبة مثل الحوثيين بجدوى السلام، في حين أن تلك الجماعة مازالت تواجه صعوبة بالغة في الاعتراف بالآخر فضلا عن التحاور معه، استنادا إلى خلفيات أيديولوجية أنتجت أرضا خصبة للصراع المذهبي والسلالي في اليمن.
المرجعيات الدينية التي تغذي حرب الحوثيين تضافرت كثيرا مع التأثير الإيراني على قرار الجماعة التي ربطت مصيرها إلى حد كبير بمصالح طهران في المنطقة، وهي معضلة كبيرة لا يمكن الفكاك منها كما حدث طيلة ثماني سنوات من الحرب اليمنية التي تخللتها ومضات للسلام أطفأها الفيتو الإيراني المهمين على القرار الحوثي، بدءا من مشاورات الكويت (2016) مرورا باتفاق السويد (2018) ووصولا إلى الهدنة الأممية التي تعثرت نتيجة التعنت الحوثي الذي لا يبدو أن نهايته قد حانت كما يلوح في أفق السلام الكاذب.
وتحديات السلام في اليمن لا تقف فقط عند عتبة الحوثيين وخلفياتهم العقائدية وارتباطهم الإيراني، حيث توجد هناك قنابل أخرى موقوتة في ثنايا هذا الملف الملغوم لا يمكن تجاهلها اليوم عند الحديث عن سلام شامل في اليمن، وفي طليعة ذلك “القضية الجنوبية” التي خاض أنصارها تاريخا طويلا من النضال السياسي والشعبي، وشكلوا بعد الانقلاب الحوثي حاجز الصد الأساسي الذي أوقف زحف المشروع الحوثي – الإيراني وقوة المقاومة التي حررت المحافظات الجنوبية وفرضت واقعا جديدا من خلال رسم خط جيوسياسي بين حدود الانقلاب والشرعية، بل وكان الجنوبيون رأس الحربة في حرب مضادة كادت تنجح في تحرير كامل الساحل الغربي لليمن في العام 2018، قبل أن يرمي العالم بثقله لوقف هذه المعركة التي كادت تقصّر من عمر الانقلاب وتغيّر معادلة الحرب في اليمن.