الحبيب الأسود يكتب:
هل انتهت الحرب في ليبيا بتعهدات الدبيبة؟
الرهان يبدو كبيرا على حكومة المهندس عبدالحميد الدبيبة، سواء داخل ليبيا أو خارجها، في أن تكون في مستوى التحديات المفروضة عليها والمسؤوليات الملقاة على عاتقها وعلى رأسها طي صفحة ميراث عشر سنوات من الفوضى والصراعات والخراب والفساد والانقسام السياسي والعسكري والإداري وانهيار منظومة الخدمات، رغم أن العمر الافتراضي للحكومة الجديدة لن يتجاوز عشرة أشهر.
أوّل ما يدعو إلى التفاؤل أن الدبيبة ومنذ انتخابه في ملتقى جنيف في الخامس من فبراير الماضي قدم خطابا جامعا استند فيه إلى روح الوطنية الليبية، وعبّر فيه عن تطلعات أبناء وطنه إلى الأمن والاستقرار والوحدة واستعادة سيادة الدولة وإخراج القوات الأجنبية والمرتزقة وتوفير الخدمات الضرورية للمواطن بعد سنوات من المعاناة على كل الأصعدة وفي جميع المجالات والمناطق.
من أبرز تعهدات الدبيبة القطع مع زمن المواجهات الميدانية، وبالتالي نهاية زمن الحرب ودخول مرحلة السلام، فالليبيون لن يتقاتلوا مجددا، والمستقبل سيكون بلا حروب وفق قوله، وهو طموح شعبي عامّ وهدف أممي وأمل إقليمي ودولي وأهم نقطة في قائمة أولويات خارطة الحل السياسي، وعماد اتفاق جنيف للجنة العسكرية المشتركة المبرم في الثالث والعشرين من أكتوبر الماضي.
ولكن هل انتهى زمن الحرب فعلا كما جاء في وعد أقرب إلى الرجاء على لسان الدبيبة؟ مبدئيا لا أحد يستطيع أن يجزم بذلك، لاسيما أن الميلشيات لم تحلّ والسلاح المنفلت لم يجمع والمرتزقة لم يغادروا البلاد، والتقسيم الفعلي للثروة والنفوذ والمصالح لم يتمّ بعد، والمصالحة الوطنية الشاملة لم تعلن، ولا يوجد ما يشير إلى قرب البدء في تكريسها كأمر واقع.
الحروب في ليبيا خلال السنوات العشر الماضية كانت مرتبطة بحسابات جهوية وفئوية داخلية وبمصالح حزبية وأيديولوجية مرتبطة بمحور خارجي، معركة فجر ليبيا مثلا جاءت كرد فعل على هزيمة الإخوان في انتخابات يونيو 2014، وزعيم حزب العدالة والبناء محمد صوان اعترف بأن الجماعة كانت وراء اندلاعها، ومعركة “الكرامة” فرضها تغول الجماعات الإرهابية والسعي إلى تمكينها من الحكم ضمن مخطط كان يتجاوز ليبيا إلى المنطقة ككل على أساس إعادة توطين الإرهاب في بيئته الأصلية، ومعركة طرابلس 2019 جاءت بسبب تراجع فايز السراج عن اتفاق أبوظبي مع قائد الجيش خليفة حفتر بدفع مباشر من قطر وتركيا.
ولعل الدبيبة كان شجاعا عندما دعا مدينته مصراتة إلى التخلي عن منطق الهيمنة ومحاولة السيطرة على ليبيا بسلاح الميليشيات لأن النتيجة كانت عكسية وأدت إلى أن المدينة الرائدة في مختلف المجالات أصبحت مرفوضة من قبل أغلب الليبيين، وبالمقابل كان السراج يتلاعب بمصالح البلاد عندما عمل على تكريس سلطته وحماية نفوذه بالاعتماد على الميليشيات وترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب وصولا إلى تمكين أمراء الحرب من مناصب سيادية في حكومة الوفاق، وهو ما أدانته أغلب المنظمات الحقوقية في الداخل والخارج.
إن أخطر ما قد تواجهه ليبيا مستقبلا هو العودة إلى مربع الصراع الدموي بسبب ميليشيات لن تقبل بسهولة التنازل عن الامتيازات التي جعلت منها قوى فاعلة على الأرض ومؤثرة في القرار السياسي وتوزيع الوظائف وتقاسم الاعتمادات والموارد المالية، وفي إدارة الاقتصادات المحلية لمناطقها في غرب البلاد عن طريق التهريب والإتجار بالبشر ووضع اليد على المؤسسات المحلية، إضافة إلى أن تلك الميليشيات تضم في صفوفها بعضا ممن سبق لهم التورط في جرائم لا تسقط بالتقادم، ومن صدرت في حقهم بطاقات ضبط من القضاء الليبي والقضاء الدولي، إضافة إلى العناصر الإرهابية وخاصة منها تلك المرتبطة بتنظيمي داعش والقاعدة والتي كانت فرت من المنطقة الشرقية أو من سرت بعد انهيار الجماعات التي كانت تنتمي إليها قبل أن تلتحق بميليشيات المنطقة الغربية وتتستر بغطائها التنظيمي والاجتماعي أمام صمت حكومة الوفاق التي استفادت منها في حربها مع الجيش.
ثم إنه وفي الوقت الذي تسعى فيه السلطات الجديدة إلى الدخول بالبلاد في مرحلة الحل الأمني والسياسي وتجاوز الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، لا تزال ميليشيات مصراتة تعرقل فتح الطريق الساحلية بين شرق البلاد وغربها، فيما لا تزال ميليشيات طرابلس تتنافس على السيطرة على المربعات الأمنية بالعاصمة، وميليشيات الزاوية تستعرض قوتها كلما سنحت الفرصة، وحوالي 20 ألف مرتزق أجنبي وفق تقديرات الأمم المتحدة يسرحون ويمرحون على أراضي ليبيا، مع قواعد تركية معلنة في مصراتة والخمس والوطية وطرابلس، وكل هذا يضع الحل السياسي على كف عفريت يتخفى في جلباب المصلحة التي تحرك القوى الداخلية والخارجية، وعلى رأسها صنابير النفط ومفاتيح الخزانة وخارطة الموقع الإستراتيجي المؤثر للبلاد.
بمعنى آخر، إن نهاية الحرب في ليبيا لا تكون إلا بتوحيد المؤسسات الأمنية والعسكرية الذي لن يتحقق إلا بحل الميليشيات وجمع السلاح وإجلاء المسلحين الأجانب سواء كانوا من قوات نظامية أو مرتزقة، والتي لن تتحقق بدورها إلا بقرار دولي صارم ونافذ، وغير قابل للمراوغات السياسية والحسابات الضيقة للعواصم الخارجية، ولو بالعودة إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي لا تزال ليبيا خاضعة له منذ العام 2011.
لا شك أن حديث الدبيبة عن انتهاء مرحلة تقاتل الأشقاء من أبناء الوطن الواحد يعبّر عن نوايا صادقة ولا يمكن التشكيك فيها انطلاقا من مرجعيته كرجل أعمال ناجح يعرف أن لا نماء للاقتصاد والمال والأعمال دون أمن واستقرار، وكَلِيبي عاش في بلاده قبل 2011 وكان يمارس وظيفته من داخل أجهزة الدولة ولم يكن ناشطا ضدها من أرصفة المعارضة في العواصم الأجنبية، وهو ليبرالي بالأساس ولا يخضع لمشاريع أيديولوجية هدفها التمكين بكل الوسائل ومنها الحرب، وهو صاحب طموحات سياسية، ويرى أن إدارته لهذه المرحلة الانتقالية وإن كانت تمنعه من الترشحات لانتخابات ديسمبر إلا أن نجاحه في تسييرها وتحقيق أهدافها سيفتح أمامه أبواب المستقبل ليكون جوادا رابحا في المرحلة القادمة.