إبراهيم مؤمن يكتب لـ(اليوم الثامن):
ليُمزّق كلُّ كتاب يريق الدماء
«بسم الله الرحمن الرحيم: شعب مصر العظيم، لقد لبّينا نداءكم فلبّوا نداءنا، لم نتخلَ عنكم وأغثناكم مِن حاكم مستبدٍّ؛ فاعملوا بجدٍ من الآن وغدًا واعدلوا فيما بينكم حتى نستطيع أن نوظفكم في الأماكن المناسبة من هذه الدولة الأم. أنتم لا تدرون ماذا فعلنا لكي نحفظ دماءكم، لقد وضع المجلس العسكريّ أرواحه على أكفِّ أيديهم كي يلبّي رغباتكم، وأنتم تعلمون جيدًَا ما كان يتحصّن به هذا العار مِن الداخل والخارج؛ فلم نخزكم؛ فلا تخزونا، وكدوا واجتهدوا حتى نبني بلدنا الجديدة. لقد عملنا على حفظ وحدتكم حتى لا تتقاتلوا في حرْب أهليّة تأكل الأخضر واليابس، فكنّا حكماء في هذا الأمر فلا تتباغضوا فيما بينكم واعدلوا فيما بينكم.»
همس بعض قادة الثوّار والأحزاب لأنفسهم وهم يسمعون تكرار قول مهدي بشأن أن يعدل الشعب فيما بينهم، فحاروا في مراده، لكن أكثر الناس حنكة وفطنة فسّر قوله بأن الله قد سلط عليهم من يسومهم سوء العذاب بسبب ظلمهم لبعضهم بعضًا.
بعد أن شرب مهدي كوبًا من الماء استأنف: «ولقد اتفقنا نحن والمجلس العسكريّ على خارطة مستقبل تتضمن خطوات أوليّة تحقق بناء مجتمع مصريّ قويّ ومتماسك لا يقصي أحدًا مِن أبنائه وتياراته، وينهي حالة الصراع والانقسام، وتشتمل هذه الخارطة على الآتي:تعطيل الدستور بشكل مؤقت، وتشكيل لجنة تضمُّ كلَّ الأطياف والخبرات لمراجعة التعديلات الدستوريّة المقترحة على الدستور المعطل، وتولية رئيس المحكمة الدستوريّة حكم البلاد لحين القيام بانتخابات رئاسيّة جديدة ومبكرة. وتشكيل لجنة عليا للمصالحة الوطنيّة من شخصيات تتمتع بمصداقيّة وقبول لدى جميع النخب الوطنية وتمثل مختلف التوجهات. أيّها الشعب الكريم، لن ندفعكم للتظاهر بعد ذلك، لكن ساعدونا على ذلك بأن تراعوا الله فيما بينكم، ومن كان لديه مظلمة فليرفعها لنا نحن؛ نحن المجلس العسكري الذي من الآن وغدا سيقيم كل رئيس معوج أراد الضر بهذه الدولة. حفظ الله مصر وشعبها الأبيّ العظيم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.»
رفع فهمان يديه صائحًا مهللاً، وظلّ يقفز ويدور، فلمّا رآه جاك على هذه الحالة رفعه وأجلسه بحيث كان إسته مرتكزًا خلف مقدمة رأسه ومتدليًا قدميه بجانب ذراعيه ثمّ تراقص به وأخذ يدور ويدور ولم يتعب جاك ولم يكفّ فهمان عن الضحك.
وتمر الأيام تليها أيام ازداد فيها حب الشعب المصري للرئيس مهدي حتى نادوا به رئيسًا دون رغبة منه.
وتُوج مهديّ لرئاسة الجمهوريّة بعد إجراء انتخابات مبكرة تساقط فيها منافسوه واحدًا تلو الآخر.
وألقى فيه خطابًا بين فيه خطة عمل جيدة للنهوض بالدولة، قال فيه: «أعضاء المجلس العسكري الكرام و ..الخ. شكرًا لكم على ما قدمتموه لمصر في هذه المرحلة الحرجة التي كادتْ أن تعصف بها في دهاليز القبور. والآن أنا وأنتم ومِن خلفكم رجال ما يعلمهم إلّا قليل سوف نصطف معًا دون إقصاء لأيّ كفاءة أو خبرة، نصطف لنبني بلدنا. أقول لكم نصطف ولننسَ الماضي إلّا ما خُطَّ من سواعد أجدادكم الأولين مِن حضارة كانت وما زالتْ إلى الآن مصدر ريح طيبة تنهدنا عليها حسرة أكثر من سبعة آلاف عام، أنتم فراعنة وأبناء فراعنة وسوف نعيش الفترة القادمة فراعنة أحملُ فيها هذا المجد التليد وأعود به إليكم. عليكم بالسيادة ولن تسودوا إلّا إذا عدلتم واعتصمتم.
على مدى فترة طويلة جدًا آثار شِرذمة مِن الداخلية عليكم فسلبوكم وحكّموا فيكم قضاة باعوا ضمائرهم، وأسمعوكم من إعلامه ما أصاب أدمغتكم بالدروشة والتغييب عن الواقع فحسّن لكم المنكر وقبّح المعروف، والآن، تبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود لمّا صرختْ بطونُكم وجفّتْ حلوقكم، فكانتْ البطون الجائعة والحلوق الظامئة مصباحين أضاءا لكم الطريق فرأيتموه على حقيقته. كان يبصّركم بأنّ تحت أقدامكم كنوزًا ولآلئ وأزاهيرَ، ولم تمضِ إلّا أعوام قلائل حتى وجدتم الأرض تنشقُّ تحت أقدامكم، فهويتم في حمم ملتهبة؛ تلك الحمم التي صنعها من وحيّ أكاذيبه ومكره الخادع. ولقد كان يدّعي أنّه سيحملكم في سفينة تبحر آمنة، ولكنّكم أبصرتم أشرعة ممزقة وعواصف كاسحة وسفينة بلا شُطآن.»
جلس مهدي ليستريح -فقد كان واقفًا- ثم استأنف حديثه بقوله: «اليوم أعزيكم في مفقوديكم، فالبقاء لله وحده، كلّ شيء هالك إلّا وجهه له الملك وإليه ترجعون. كما أمدُّ يدي إليكم لأحمل عائلكم، وأطعم مسكينكم، وأعين على نوائب الحق. وأعدكم بأنّ تلك الأيّام السوالف لن تعود أبدًا ولو كانت حياتي فداءكم . جرحاكم في مستشفيات القوات المسلحة وسائر المستشفيات الحكوميّة أُشرف أنا عليهم بنفسي. وعلى كلّ سيدة ترمّلتْ، وكلّ رجل فقد يمينه وأداة عمله أن يتقدّم بطلب إلينا ونحن سنحمله قدر ما نستطيع. وبناء على ثورتكم المجيدة التي ضحيتم فيها بأرواحكم، فقد رضينا نحن عن فعلكم؛ فقد أنرتم لنا كلَّ الدروبِ بمصابيح عزائمكم التي ما قهرت، وحفاظًا على عملكم المجيد؛ فقد ارتأينا أن نحصّنه بعدة خطوات نسير بها إلى الأمام، إلى حضارة الفراعنة، إنّ القسم الذي أؤديه اليوم هو يمين الولاء لكلّ المصريين. وإنّي أعلن اليوم أنّ مصر هي أمّ لكل البلاد العربيّة ولا نتدخل في شئون أحد ولا نحبّ أن يتدخل أحد في شئوننا، وأنا أعلم أنّهم يسمعونني الآن، لا شأنّ لكم بمصر وشعب مصر، دعوهم، إذا ظُلموا رفعوا دعواهم إلينا بديلاً مِن تسليط أذنابكم للعمل على فوضى تبغون مِن ورائها تفرق كلمتنا وشرذمة بلادنا.» صمت مهدي قليلاً، بينما يعقوب إسحاق قال هازئاً بعد أن سمع آخر كلماته: «أنت أحمق أبله يا مهديّ، ما خُلق أحد يستطيع أن يقف في وجه يعقوب إسحاق.»
أما دولة قطر، فقالت: «نحن لا نتدخل في شئون أحد أيها الأبله، ونرجو أن تكون أفضل ممن سبقك حتى لا تضطرنا أن نميط اللثام عن هويتك الخبيثة.»
أما قادة الثوار فقالوا: «اخلص لهذه البلد نخلص لك ولمن وراءك.»
استأنف مهدي: «وكلمة أوجهها إلى الأخوة المسيحيين، كما أوجهها إلى كلِّ التيارات الإسلاميّة قاطبة، قرآننا لنا وإنجيلكم لكم فلا نُسمع أحد منكم قرآننا كما لا نودّ أن تسمعونا إنجيلكم، فمن أراد من المسلمين الخروج واللجوء إليكم ليسمع منكم فهذا شأنه كما هو شأننا من يخرج من عندكم ليأتي ويسمعنا.» فور أن أنهى تلك الكلمة حدق في الجالسين وظلت عيناه تدور على بعض القيادات السياسية المسيحية، بينما البابا همس في نفسه وقد كان من بين الجالسين: «كلام في كلام، طول عمركم تثرثرون ولا ننال من كلامكم في النهاية غير الطعن في صدورنا قبل ظهورنا.»
أما جماعة التكفير فعلقت على كلمته الأخيرة: «لقد كفر الأخ مهدي، لا نتركك تفسد في الأرض.»
استأنف: «كونوا إخوانًَا ولا تتباغضوا، واعلموا أنّ حُرمة دمائكم وأموالكم وأعراضكم مثل حرمة أهل بيتي، وأقسم بالله لو بلغني عن أحدّ أنّه أراد أن يُحدث فتنة بينكم وبيننا لأقصمنّ ظهره ولو كان شيخ أزهرنا أو كبير أساقفتكم. وكلمة إلى كلِّ المراكز العلميّة والمختبرات والجامعات أقول لكم اجتهدوا واطلبوا ما تشاءون مِن أموال، أريد اختراعات توفّر لنا حضارة مستنيرة وقوة ومجدًا منقطع النظير. وشكرًا لكم.»
*****
بتأجيج الصراعات السالفة في كافّة منطقة الشرق الأوسط والتي نجحت نجاحًا ساحقًَا باستثناء مصر، كان علي يعقوب إسحاق أن يثبت قدميه داخل فلسطين تثبيتًا لا تراجع بعده؛ ومن أجل ذلك استنفر الشعب اليهوديِ كلّه للحضور إلى فلسطين وإخراج رجالها.
بداية فكّر في معضلة المعضلات وهو التخلص من الأنفاق داخل فلسطين بتكثيف الهجوم على بعضها، وتكثيف الحصار على تلك التي استعصى عليهم مهاجمتها بسبب تحصينها بحقول القوى. وعلى ذلك تحركتْ القوات الإسرائيليّة بأجهزة كشف جديدة تجاه الأنفاق غير المحصّنة -بحقول القوى- تصاحبها أجهزة قياس زلازل حسّاسة، وميكروفونات صغيرة -كاشفة لأيّ صوت حفريات حتى إنّها ترصد أصوات الديدان التي تتحرك في تربتها- وكلاب مدرّبة، وجهاز جديد يقوم بعملية مسح التجاويف الأرضية ضوئيًا فضلاً عن الروبوتات. وبالفعل حدث تمشيط كامل للأراضي الفلسطينية وتمّ ترسيم خطوطها، ومن خلال تكنولوجيا الأدوات المستخدمة المذكورة وبمزيد من الدقة والضبط كشفوا أنفاقًا جديدة داخل فلسطين وعملوا على تصفية ما يستطيعون منها بالمناوشة من بعيد، وبالالتحام المباشر أحيانًا. أمّا المحصنة فقد كثّفوا عليها الحصار لعدم الفائدة من اقتحامها.
ولقد كانت الأنباء تتوالى من قادة مقاومة الأنفاق إلى عبد الشهيد -القائد الأعلى لكلّ الأنفاق- وكان ينقلها أولاً بأوّل إلى مؤيد.
كانت الأنباء تصل من فيه عبد الشهيد إلى مؤيد عبر الهاتف فيسمعها ولا يردّ، ثمّ يجلس مهدودًا وقد اكتنفه اليأس حتى فتت من عضديه.
أمّا خارج فلسطين -وفي سيناء بالتحديد- بدأتْ القوات تتحرك تجاه شمال شرق سيناء، وهناك بدأت قوات حرس الحدود المصريّة بالتصدي لها، لم يحدث التحام؛ وإنّما حدث تنافس خشن أدّى إلى رجوع القوات الإسرائيلية بمعدات تنقيبها وأسلحتها إلى أدراجها. كما خرجت قوات الأنفاق لردع الطيران.
غضب يعقوب إسحاق لِما فعلته القوات المصريّة تجاه قواته، وراسل على الفور الرئيس مهديّ، فقال مهدي: «إنّ سيناء أرض مصرية وذات سيادة.»
ولم يجد إسحاق يعقوب وسيلة للرد عليه إلا أن يطلبه في الأمم المتحدة، ومما قال فيها يعقوب: «إنّ إسرائيل تدافع عن حقها بموجب الاتفاقيّة الرباعيّة التي تسمح بهجرة إخواننا الفلسطينيين إلى سيناء كما تسمح بتوغل القوات الإسرائيليّة عبر تلك الحدود للبحث عن الشرذمة الإرهابيين منهم.»
رد مهدي ساخرًا: «مبارك على توليتك رئاسة وزراء إسرائيل مرة ثانية، وأودُّ أن أهبك هدية بهذه المناسبة.»
- «أين هذا الاتفاق؟»
وأعضاء الأمم المتحدة اكتفت بسماع حجة كل منهما ولم تنبس بكلمة حتى الآن، إلا أن قام الرئيس الأمريكي وناوله بروتوكول الاتفاق الذي يثبت صحة قول إسحاق، فأخذه مهدي ونظر فيه، ثمّ مزّقه وألقاه على الأرض وسط دهشة الأعضاء؛ مما حدا برئيس الأمم المتحدة بتهديده قائلا: «ستتعرض دولتك للعقوبات.»
رد مهدي: «الله حامينا، أنا رجل عسكريّ، والفلسطينيون بأرضي، فمن العار أن أترككم تقتلوهم، هم استغاثوا بي وعلى أرضي.» صمت لحظة متأملاً ثمّ ما لبث أن قال للرئيس الأمريكيّ: «هل تقبل أنت أن تعتدي أمريكا على رعايا قبلتم بدخولهم أراضيكم؟» ثم رفع من حدة نبرة صوته بسبب غضبه بفعل الرئيس السابق: «ثم إنّ هذه الاتفاقيّة أبرمها رئيس معزول عزله الشعب وأنا الرئيس الشرعيّ للبلاد، وأنا لا أعترف بهذه الاتفاقيّة.»
ردَّ عليه يعقوب إسحاق: «إنّ مَن أبرم الاتفاق دولتين، ولست أنا ورئيسك الذي انقلبتْ عليه وخنته.»
قال مهديّ وهو يشير إلى الورق على الأرض: «عرفت هديتي الآن يا يعقوب، يعقوب، لا أنتم دولة، ولا نحن كنّا دولة أيّام الرئيس الخائن، يعني اتفاقية أُبرمت تحت السِلّم.»
ردّ يعقوب بدهشة: «سلم!سلم! أنحن كنّا نلعب استغماية يأبله وعار المصريين.»
ردّ مهديّ: «أننا لا أردّ على نِباح الكلاب.»
فتذمّر يعقوب: «أنا كلب يا ابن الكلب، سأريك يوما مظلمًا أظلم مِن قيعان البحار.»
فقال مهديّ له: «يعقوب، اذهبْ وشاهد نفسك في المِرآة، إنّ وجهك ملون بسبعة ألوان؛ لكن للأسف كلّهم لون واحد، الأسود.»
قال يعقوب للجميع بعد أن تلمس وجهه: «أيبارك لي هذا الأبله على رئاستي الجديدة ومضى عليها عامان؟»
وحاول الرئيس الأمريكيّ وكذا باقي أعضاء الأمم المتحدة الحاضرين كتْم ضحكاتهم فما استطاعوا لأنه تلمس وجهه بدلا من أن يحاول النظر فيه؛ فانفلتت وانطلقتْ تضجّ في الهواء. وانصرف مهدي ضاحكًا ساخرًا باللقاء.
اجتمع الرئيس مهدي بوزاراته فور عودته من الأمم ا لمتحدة مباشرة لاتخاذ كافة الاحتياطات والتدابير اللازمة خشية وقوع أزمة محتملة بينه وبين الأمم المتحدة بشأن الاتفاقية التي مزقها.فحثهم على الاستعانة بقادة أنفاق غزة، كم حثهم على رعاية العلماء المصريين في الداخل والخارج ولاسيما البارزين منهم في تخصصات الفيزياء والكيمياء والرياضيات، وقد خص بالذكر الطالب فهمان فطين المصري لما أظهره من براعة تكنولوجية في إطفاء حريق الجامعة. وفي خضم أزمة المياه الخانقة دعاهم إلى احتواء الأزمة -ومما ذُكر له في الاجتماع استخدام الأقمار الصناعية للكشف عن المياه الجوفية في كافة الأراضي المصرية- وفور أن أنهى اجتماعه أعطى ورقة لوزير التعليم مدوّن فيها أسماء لثلاث كُتب وهي
-تاريخ مصر الفرعونيّ .
-تكوين مصر عبر العصور.
-مسلمون وأقباط .
ثمّ قال: «سيادة الوزير هذه الكتب الثلاثة قرأتهم منذ أكثر مِن اثني عشر عامًا، وهي ما زالت في مكتبتي، أريد أن أعيد قراءتها ولا أملك الوقت؛ فكلّف من يلخّصهم حتى أستطيع إعادة قراءتها.»