خير الله خير الله يكتب:
رجب طيب أردوغان يضع الإخوان المسلمين في المزاد
ليس معروفا بعد هل ينجح الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان في البناء على سياسة تقوم على وضع الإخوان المسلمين اللاجئين إليه وإلى بلده في المزاد. يعود ذلك إلى وجود شكّ بأن يكون الإخوان بضاعة صالحة للبيع والمقايضة في المدى الطويل. يمكن أن يكون لمثل هذه السياسة مردود في سياق خطوات ذات طابع محض تكتيكي توظّف في خدمة رئيس تركي يواجه أزمات كثيرة، أزمات لدى كل منها طابع خاص بها.
لكن الأزمة الأكبر التي تواجه أردوغان تبقى أزمة الثقة به. هناك مشكلة كبيرة يعاني منها الرجل الذي لم يثبت يوما على سياسة معيّنة، بل ترك في مرحلة معيّنة أحلامه الكبيرة تسيطر عليه مثلما تسيطر عليه خلفيته الإخوانية بكل ما تحمله من تخلّف وأوهام…
إذا كانت تركيا تريد تحسين علاقتها مع محيطها العربي، خصوصا مع مصر، ومع جيرانها المباشرين مثل اليونان وقبرص ومع الأوروبيين عموما والولايات المتحدة خصوصا، ليس أمام أردوغان سوى التصرّف من منطلق مختلف. يعني ذلك أنّ عليه التخلّي عن أوهامه أوّلا. إضافة إلى ذلك عليه الاقتناع بأنّ تركيا ليست دولة عظمى وأنّ الإمبراطورية العثمانية انتهت قبل ما يزيد على قرن وأن لا مجال لإعادة الحياة إليها.
لا يمكن التكهّن بما إذا كان الرئيس التركي سيقدم على خطوة في اتجاه التغيير الفعلي لذهنيّة لا تتلاءم مع وضع تركيا وإمكاناتها قبل أي شيء آخر. سيسهل عليه ذلك في حال استطاع القيام بمراجعة شاملة لأحداث السنوات القليلة الماضية التي ورط فيها تركيا بمواقف كانت في غنى عنها. هجم أردوغان حيث لا يجب أن يهجم وأطلق اتهامات يمينا ويسارا حيث كان يفترض به أن يتريّث كما حصل في مرحلة ما بعد المحاولة الانقلابية التي استهدفته في منتصف تموز – يوليو 2016. كان أجدر به التفكير بالأسباب الحقيقية التي دفعت إلى حصول الانقلاب بدل إطلاق العنان لمخيّلته… هذا إذا لم يكن الانقلاب مرتّبا له من بعض أنصاره واستخدمه من أجل إحكام قبضته على الأجهزة والمؤسسات الأمنية والعسكرية والمهنية والسلطة القضائية التي بقيت خارج سيطرته!
كان في استطاعة رجب طيّب أردوغان تحقيق نجاحات ليس بعدها نجاحات، خصوصا في سوريا حيث اتبع طوال عشر سنوات سياسة متذبذبة. كان في استطاعته بناء نموذج لإسلام حضاري يستطيع أي تركي التباهي به وتأكيد أن الإسلام دين المحبّة والتسامح والقدرة على التكيّف مع ما يشهده العالم من تطوّر. لكن الرئيس التركي، الذي نفّذ انقلابا داخليا حوّل بموجبه النظام التركي إلى نظام رئاسي على مقاسه الشخصي، فضّل ربط نفسه بكلّ الحركات الإسلاميّة المتطرّفة وبكلّ ما له علاقة بالإخوان المسلمين وما ولد من رحم هذا التنظيم على الكرة الأرضية، بدءا بـ”القاعدة” وانتهاء بـ”داعش”.
لعب أردوغان على كلّ الحبال واعتقد أن في استطاعته الانصراف إلى تحقيق حلم عودة الدولة العثمانية. استفاق على كلّ العقد التي ولدت من اضطرار تركيا إلى توقيع معاهدات قيّدتها بعد انتهاء الحرب العالميّة الأولى التي كانت فيها في جانب الخاسرين.
بلغ الأمر بأردوغان أن استفاق في العام 2010 على حصار غزّة، وهو حصار يناسب “حماس” وإسرائيل في الوقت ذاته. أرسل سفينة إلى غزة بهدف فكّ الحصار عن أهلها بعدما حوّلت “حماس” القطاع إلى سجن في الهواء الطلق لمليوني فلسطيني. كانت النتيجة سقوط قتلى بين أفراد طاقم السفينة التركيّة التي ما لبثت أن انسحبت وانسحب معها وهمُ القدرة التركيّة على تحدّي إسرائيل.
يمكن الاستعانة بعشرات من الأحداث التي تكشف الأخطاء التي ارتكبها الرئيس التركي في محاولته لعب دور أكبر من حجمه وحجم بلده.
لكنّ الخطأ الأساسي يظلّ خطأ داخليا. تراجع نفوذ أردوغان في المدن الثلاث الكبرى، إسطنبول والعاصمة أنقرة وأزمير. صحيح أن الرئيس التركي يستطيع الفوز في أي انتخابات عامة بسبب الريف وأهله البسطاء الذين يستطيع دائما أن يضحك عليهم مستخدما الدين، لكنّ الصحيح أيضا أنّ الاقتصاد التركي عانى كثيرا بسبب سياسة أردوغان الذي تحدّى أوروبا بحجج واهية وتحرّش بدول مسالمة مثل اليونان وأصرّ على تقسيم قبرص واستمرار الاحتلال التركي لقسم منها. كذلك أصرّ على الذهاب إلى ليبيا من أجل تحويل تركيا إلى لاعب أساسي في حوض البحر المتوسّط. لم يأبه للمصالح الأوروبية. عمل في النهاية ما عملته إيران التي كان في كلّ وقت متحالفا معها من تحت الطاولة ومن فوقها. ساعد إيران في أحيان كثيرة على تجاوز العقوبات الأميركية.
ما يفرض على أردوغان التغيير حاليا لا يقتصر على الوضع الاقتصادي لتركيا فحسب، بل عليه أيضا التعاطي مع إدارة أميركية جديدة لا يكنّ له رئيسها جو بايدن ودّا. على العكس من ذلك، هناك عدد لا بأس به من المسؤولين في الإدارة الجديدة يتعاطفون مع القضيّة الكرديّة التي تعتبر أحد أكبر هواجس الرئيس التركي.
انفتح رجب طيب أردوغان على مصر فتجاوبت معه بعد تنفيذ جانب من المطلوب منه في المجال الإعلامي. هناك أيضا معلومات تشير إلى تقديم الرئيس التركي لأوراق اعتماده إلى المملكة العربيّة السعودية عن طريق لعب دور عبر طائرات مسيرة أرسلها إلى اليمن من أجل وضع الحوثيين عند حدودهم. قد تكون تركيا لعبت دورا في إفشال هجوم الحوثي وجماعته المسماة “أنصار الله” على مأرب. لا يمكن إلّا الترحيب بالخطوات الأخيرة التي بدرت عن أردوغان. لكن الوقت وحده سيحكم على ما إذا كان الرئيس التركي، الذي حاول في الأشهر القليلة الماضية إعادة العلاقات مع إسرائيل إلى طبيعتها، سينجح في حملة الانفتاح التي يقوم بها… أم أنّها مجرّد حملة علاقات عامة.
نعم، إنّ الوقت وحده سيظهر ما إذا كان أردوغان تغيّر وأن في الإمكان الوثوق به. لا شكّ أن تركيا دولة في غاية الأهمّية في المنطقة، لكنّها تبقى في حاجة إلى الآخرين من جيرانها وإلى القدرة على إقامة علاقة طبيعية ليس مع العرب وحدهم، بل مع العالم. سيتوقّف الكثير على ما إذا كانت الإدارة الأميركية الجديدة مستعدة للاقتناع بأنّها أمام أردوغان جديد… أم كلّ ما في الأمر أن الرجل لا يستطيع التخلّص من العقد التي تحكّمت بماضيه بسبب خلفيته الإخوانية.
جعله هذا النوع من العقد المتجذّرة في الإخوان المسلمين يحوّل كاتدرائية آيا صوفيا في إسطنبول إلى مسجد مجددا إرضاء لشعبوية لا مكان لها في القرن الواحد والعشرين في الدول المتحضّرة.
---------------------------------