صالح القلاب يكتب:
الأسد لا يمثل العلويين والأرسوزي رمز عروبتهم الفعلية
ما كان متوقعاً أنْ تصل الجرأة بالمعارضة السورية أنْ تدعو إلى عقد اجتماع معلن في أحد أحياء دمشق الرئيسية ومعقل الأكراد وبمشاركة 18 مكوناً وتحت شعارات صاخبة. فلو أنّ بشار الأسد ما زال في كامل قواهِ السياسية والأمنية والعسكرية، فلن يبادر إلى القيام بانقلابٍ عسكري واحدٍ، بل بكثير من الانقلابات العسكرية ولفتح أبواب السجون السورية العلنية والسرية على مصاريعها طالما أنه محاطٌ بالروس وبالإيرانيين وبالطبع بـ«فيالق» حسن نصر الله التي تركت الجنوب اللبناني مفتوحاً أمام الإسرائيليين، وتركت هضبة الجولان للاحتلال الإسرائيلي الذي لم يمرَّ يوم واحد من دون أن يستهدف موقعاً عسكرياً في «قلب العروبة النابض».
ولعلَّ ما يشير إلى أنّ هذا الاجتماع في دمشق ليس لمعارضة «شرعية»، أنّ أحد بنود اجتماعه قد أكدَّ على هيئة «حكمٍ» انتقالية في سوريا، وعلى إعادة هيكلة المؤسسة الأمنية وبناء جيشٍ وطني وإخراج جميع الجيوش والميليشيات غير السورية من هذه البلاد، ويقيناً لو أنّ بشار الأسد فيه ولو بقايا نَفَسٍ للمقاومة والتصدّي لكانت الفرقة الرابعة بقيادة شقيقه ماهر الأسد قد وصلت إلى ركن الدين قبل أنْ يصله المعارضون ولحوّلته إلى أكوامٍ من الأتربة والحجارة، كما فعلت في كثير من أحياء دمشق الشام، التي فعل فيها الغزاة المحتلون على حقب التاريخ ما فعله فيها وفي غيرها، ما لم يفعله الغزاة المتتابعون.
إنّ ما بات مؤكداً وواضحاً هو أنّ هذا النظام السوري، الذي رفع ولا يزال يرفع شعار «أمة عربية واحدة... ذات رسالة خالدة» من قبيل الضحك على ذقون المحيطين به، وليشعر بعض من لا يزالون لم يعرفوا حقائق الأمور بأنّ «حزب البعث العربي الاشتراكي» - الذي كان في ذروة تألقه عندما سيطر على الحكم في عام 1963 - قد أصبح في الرمق السياسي والأمني، وأيضاً العسكري الأخير، وأنّ الروس والإيرانيين ومعهم باقي ما تبقّى من «ميليشيات» حسن نصر الله الإيرانية ما عادوا قادرين على إنقاذه، وأنّ نهايته بالطبع ونهاية حزبه وفرقة «شقيقه» الرابعة باتت محسومة.
ربما بعض «المؤلّفة قلوبهم» من المرتزقة يعتقدون أنّ «العلويين» أي أبناء الطائفة العلوية التي أعطت لـ«القطر العربي السوري» عشرات كبار المبدعين ثقافياً وسياسياً وحزبياً... وأيضاً عسكرياً، ما زالوا يتحلّقون حول بشار الأسد كما كان بعضهم قد تحلّقوا حول والده حافظ الأسد الذي بقي يحكم البلد بالحديد والنار لمدة 30 عاماً، وحقيقة أنّ هذا ليس صحيحاً، وعلى الإطلاق، وأن خيرة القيادات الحزبية والكفاءات الأدبية والسياسية السورية كانت من أبناء هذه الطائفة التي بسبب ممارسات هذا النظام، في عهد الأب أو الابن، قد ألصقت بها اتهامات كثيرة غير صحيحة وقيل فيها ما لا يقال وخاصة بعد عام 1970.
حتى ذلك المفكر القومي والسياسي الكبير ابن لواء الإسكندرون زكي الأرسوزي أحد مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي عندما كان في ذروة تألقه وعندما لم يكن قد دخل دوامة الانقلابات العسكرية لم يسلمْ من اتهامات بعض الحاقدين وبعض المغرضين، وعليّ أن أشير هنا إلى أنّ الأستاذ محمد فاروق الإمام قد قال في الأرسوزي: كان اقتطاع لواء أسكندرون من سوريا من قبل الاستعمار الفرنسي كبير الأثر عليه، وهو يرى جزءاً من بلاده ينتزع ويسلخ بدون وجه حقٍ من قبل مستعمرٍ لا همَّ له إلا مصالحه، وهذه الحادثة قد أدّت إلى تمرّده لقيادة حملة لمقاومة سلخ هذا اللواء الذي لا يزال بعض العرب يصرّون على أنه عربي وأنه سيبقى عربياً حتى بعد عودته إلى أهله.
كان المفكر الأرسوزي، هذا العروبي المبدع، قد توفي في العاصمة دمشق عام 1968 وكنت أحد الذين ساروا في جنازته؛ حيث ووري تراب مقبرة «الدحداح» الدمشقية نسبة إلى شيخ الإسلام أحمد أبي الدحداح الدمشقي، وحيث قد دفن في هذه المقبرة وحيث إنه لم يعد تابعاً لهذا النظام ومن دون سيطرة كاملة إلا شريطاً، السيطرة الفعلية فيه للروس وللإيرانيين، وأيضاً ضاحية بيروت الجنوبية لحسن نصر الله.
وإنّ الأخطر في هذا كله هو أنّ هناك من يدفع بشار الأسد، دفعاً إلى الانتقال من العاصمة دمشق إلى القرداحة (بلدته الأصلية) وأن يقيم دولته العلويّة هناك وأن يضمّ اللاذقية إليها، إذْ أصبحت هناك إمكانية للسيطرة على الساحل السوري كله، لكن يجب هنا الأخذ بعين الاعتبار أنّ غالبية «العلويين» ترفض هذا رفضاً كاملاً وأنها تتمسّك بوحدة الجمهورية العربية السورية وبوحدة سوريا كما كانت عليه قبل عهد بشار الأسد الذي تحوّلت فيه إلى كلِّ هذه «المزق» التي تحتلها، وبالإضافة إلى بعض الدول كثير من التنظيمات الإرهابية.
إنّ بشار الأسد لا يمثلُ «العلويين» كطائفة ولا كمجموعة عرقية، وإنّ هذه الطائفة سابقاً ولاحقاً شديدة التمسك بانتمائها القومي العربي، وإنه ليس تجنياً على حقائق الأمور عندما نقول إن المفكر زكي الأرسوزي وإن كل هؤلاء الكتاب والشعراء والمبدعين الكبار هم من هذه الطائفة التي ما كانت في أي يومٍ من الأيام إلا عربية قومية، وإنه لا يُشكّك في عروبتها إلا الذين يتعمّدون الإساءة للعرب والعروبة.
ويبقى أنّ سوريا العظيمة فعلاً هي أمام تحدٍ تاريخي لم تمر بمثله من قبل، وأنها إنْ لم تتخلّص من هذا النظام المستبد الذي تواصل لنحو نصف قرن، إنْ في عهد الوالد حافظ الأسد وإنْ في عهد ابنه بشار، فإنها بانتظار تمزُّقٍ لا مثيل له، وإنّ أخطر ما فيه أنه تمزق قد يأخذ الطابع الطائفي ما دام أنّ التمزق المذهبي قد اتخذ طريقه في هذا الاتجاه وفي هذا البلد منذ فترة سابقة مبكرة، إنْ هي لم تكن في 23 فبراير (شباط) عام 1966، ففي عام 1970 عندما سيطر والد الرئيس الحالي حافظ الأسد على الأوضاع بانقلاب عسكري ووضع من كانوا يوصفون بأنهم «رفاقه» في السجون وفي زنازين المزّة المعروفة، التي أقامها الاحتلال الفرنسي للوطنيين السوريين الذين قاوموا الاستعمار الفرنسي، وقدّموا كثيراً من الشهداء في هذا المجال، كما قام هؤلاء الوطنيون السوريون بالتخلص من الوصاية العثمانية التي تواصلت لعهود متلاحقة طويلة.
والأخطر في هذا المجال اليوم هو أن المنطقة العربية كلها تمرُّ الآن بمرحلة في غاية الخطورة، وأنّ أوضاع بعض الدول العربية هي أسوأ من أوضاع سوريا، مثل العراق الذي يتدخل الإيرانيون فيه تدخلاً سافراً وفي شؤونه الوطنية والداخلية بالطول والعرض، كما يقال، ثم إنّ لبنان الذي قيل فيه: «هالكم أرْزّهُ العاجئين الكون وقبل ما كانوا هون ما كانش كون» بات ممزقاً على نحوٍ لم يمر به على مدى تاريخه منذ استقلاله وقبل ذلك، والأصعب والأخطر أنّ السيطرة عليه لم تعد لنظام بشار الأسد فقط، وإنما للإيرانيين أيضاً من خلال حسن نصر الله وميليشياته الطائفية، وهذا كله جعل الجنوب اللبناني معرضاً للاحتلال الإسرائيلي، وجعل بعض مناطقه الأخرى معرضة لاندلاع حربٍ أهلية، هي أخطر من كلّ الحروب الأهلية التي مرّ بها لبنان على مدى فتراته البعيدة والقريبة.