فيصل الصوفي يكتب:

الكاتب وابن الزيات

اشتغل عبد الحميد بن يحيى الفارسي، بكتابة الرسائل التي كان يوجهها الحكام الأمويون لولاة الأقاليم وغير ذلك من المكاتبات. فعرف عبد الحميد بالكاتب، أو عبد الحميد الكاتب.. وأصله فارسي كما ذكرنا، انتقل من تلك البلاد إلى بلاد العرب، فأقام بأنبار العراق، ثم إلى الشام وفيها استقر.. ومع أعجميته برع في علوم العربية وآدابها، وأتقن كتابة الرسائل بأسلوب رفيع، ما أهله ليكون كاتبا للرسائل في عهد الحاكم الأموي هشام بن عبد الملك، وتدرج حتى وصل في عهد مروان بن محمد مرتبة الكاتب الأول لدولة بني أمية.. إلى اليوم، ما يزال عبد الحميد يعد الرائد الأول لأدب الرسائل، كما أنه نقل من الأدب السياسي الفارسي ما يعرف بالآداب السلطانية.. والآداب السلطانية هي التقاليد التي يتعين على الحكام والمحكومين مراعاتها أو احترامها، مثل كيف يتعامل الرئيس مع المرؤوسين، وما التعاليم التي تلقن للموظفين، وكيف وبم يؤدب المعلم أولاد الحكام، وغير ذلك، ولاحقا بسط ابن المقفع هذه الآداب، أي في عصر دولة بني العباس.. في العام 750 ميلادي أجهز العباسيون على خصومهم الأمويين ومحو دولتهم، وقتلوا عبد الحميد الكاتب إلى جانب مروان بن محمد آخر حكام دولة بني أمية.. قتل العباسيون عبد الحميد الكاتب ظلما، إذ كان كما ذكرنا، ولم يزد عليه، فلم يكن من مدبري سياسة الحكم، ولا كان خصما لبني العباس الذين بنوا دولتهم تحت لافتة الرضا من آل محمد!

مثل عبد الحميد الكاتب في عهد بني أمية، كان ابن الزيات في عهد بني العباس، كاتبا لا يبارى، عالم بالعربية وفنونها، إلى جانب أنه شاعر رقيق.. هو محمد بن عبد الملك بن أبان، المعروف بابن الزيات.. ولد في العام 789 ميلادي لتاجر كان يتكسب بتجارة الزيت في الجزء الغربي من مدينة بغداد، المسمى الكرخ، ولذلك عرف محمد عبد الحميد بابن الزيات.. كان أبوه يرجو أن يمتهن التجارة مثله، لكن محمدا مال إلى اللغة والأدب والشعر، لكي يتأهل لوظيفة في قصور الحكام العباسيين، وهناك حصل على فرصة لعرض مواهبه، فاختاره الحاكم العباسي المعتصم كاتبا، ثم استوزره.. ثم عينه الواثق بالله وزيرا، وكانت رتبة الوزارة حينها تلي رتبة السلطان مباشرة.

تذكر بعض المصادر أن الوزير ابن  الزيات كان يستمتع بما أتاح له منصبه الرفيع من الثروة والجاه، وأنه كان طيب الرفقة وفكها، حسن المجالسة في منتديات الشرب والمؤانسة، يحبه الخلفاء والأمراء لظرفه.. من ذلك الحكاية التالية التي لا تخلو من دلالة عن العلاقات الجنسية غير السوية التي سادت على حياة سكان قصور الحكام العباسيين.. تقول الحكاية إن ابن الزيات خرج ذات ليلة للاستمتاع، بصحبة بعض الأمراء، وكانوا متخفين كي لا ترقبهم عيون الفضوليين، وقطاع الطرق.. ركبوا قاربا وساحوا في نهر دجلة، ولما وصلوا إلى مكان وسط النهر شعر بهم لصوص كانوا على ناخوذة فأخذوا يرمونهم بالمنجنيق، ويصيحون: يا أزواج القحاب، يا أزواج القحاب، ولا يدرون من هم في الحقيقة.. حضرت روح الفكاهة ابن الزيات، الذي همس في أصحابه: لا بد أن أحدا ما  بيننا قد وشى بنا، فكشف أمرنا لهؤلاء اللصوص، فقيل له، ما الذي جعلك تعتقد ذلك؟ قال: اخبروني أنتم إذن، كيف عرف اللصوص أننا أزواج قحاب؟! 

أخلص الوزير ابن الزيات في خدمة الحكام العباسيين، لكي يثبت ولاءه وجدارته للوزارة.. ومع كونه شاعرا رقيقا، كان قاسيا للغاية في معاملة الخصوم السياسيين، حيث صنع بيده تنورا يعذبهم بوقيده، ونقل عنه أنه رمي بعضا منهم في ذلك التنور.. حين شعر أن المنية اقتربت من الحاكم العباسي حامل لقب الواثق سعى لتولية ابن الواثق مكان أبيه، واستبعد بذلك الأمير المتوكل، وكان أثناء وزارته للواثق يتعالى على المتوكل هذا، لكن مساعي ابن الزيات في تولية ابن الواثق فشلت، برجحان كفة المتوكل، الذي آلت إليه الخلافة.. وعلى الرغم من حقد المتوكل على وزير الدولة محمد بن عبد الملك ابن الزيات، فإنه لم يعاجله، بل أبقى عليه في منصب وزير دولته لبعض الوقت، ليس لحاجته إليه، بل لكي يمتحنه ثم ينكبه حسب تعبير أحد المؤرخين.. بعد الامتحان، كسر المتوكل ابن الزيات كسرة مهولة.. أمر باعتقاله، وصادر ممتلكاته، كما أمر بتعذيبه، وفي الأخير وضع ابن الزيات في التنور المسجور الذي صنعه بيده للتنكيل بمعارضي الحكم العباسي، وكان ذلك في أواخر العام 847 ميلادي.