د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):
عندما تضيء الذاكرة !!
" يحتفظ دماغ الإنسان بالذكريات المهمة التي تحمل معنى كبيرا بالنسبة للإنسان، حيث تحمل هذه الذكريات شعورا عاطفيا قويا جدا أكبر مما نعتقد عادة.
وتخزن الذاكرة الأحداث التي عاشها الإنسان واستخدم خلالها حواسه الخمس بشكل مميز، أو أن تكون تلك اللحظات مليئة بالبهجة والفرح. إضافة إلى ذلك، ينبغي أن تحمل هذه الذكريات قيمة عاطفية ومشاعر قوية.
وقد أكدت دراسة جديدة أجرتها جامعة لوند في السويد أننا قادرون على التحكم بالذكريات التي نريد أن ننساها، خاصة إذا كانت أحداثًا مؤلمة أو مواقف سلبية،
ونجح مؤلف الدراسة في إظهار أنه في حال سعينا لقمع الذكريات، سنتمكن من نسيانها تمامًا بعد فترة من الزمن. إذ يميل الدماغ إلى تفضيل الذكريات الإيجابية على غيرها من الأحداث السيئة. وكنتيجة لذلك، يعزز العقل خلال النوم الذكريات الجيدة ويكررها حتى لا ننساها "
وتختزن الذاكرة مئات الصور والمشاهد عن الماضي الذي عشناه بحلوه ومره ونستطيع استدعاء ما نرغب منها بسرعة عجيبة .
وفي هذا المقال سأحاول أن أعود إلى ذاكرتي وأستعيد منها بعض الذكريات وخاصة مرحلة الطفولة والصبا من العمر ..وقد تكون أشبه بمحطات أمر عليها ثم أنتقل إلى غيرها وقد لا تكون سلسلة مترابطة ومتصلة مع بعضها البعض ومن ذلك
مدينة الصعيد بالعوالق العليا مسقط رأسي التي تقع بين سلسلتين جبليتين تمتدان شمالا وجنوبا ويبلغ ارتفاع أعلى قمة في تلك السلسلة المحيطة بالمدينة قرابة 500 مترا وتكون أكثر ارتفاعا في الناحية الجنوبية للوادي لاتصالها بسلسلة جبال كور العوالق الذي يبلغ ارتفاع أعلى قمة فيه حوالي 2300 مترا وتنحدر منها السيول الجارفة في فصل الصيف وتظل المياه والغيول تجري في المنحدر طوال العام وتعيش في الكور النمور والذئاب والضباع وغيرها من الحيوانات الأخرى .. وتنمو وتكتسي سفوح تلك الجبال الشاهقة وعلى ضفاف الأودية أكثر من 40 نوعا من النباتات البرية والمراعي هذا خلاف الأشجار المثمرة والنباتات الأخرى ، ومن أجمل المشاهدات في تلك الجبال المنيعة عندما يغطيها الضباب المنحدر من قمم الجبال في الشتاء حتى يحجب البيوت القريبة من السفوح ..ويصاحبه رذاذ خفيف من المطر ،أما في فصل الصيف تهطل الأمطار بغزارة في منطقة العوالق في أشهر : مارس ويوليو وأغسطس وسبتمبر من كل عام بفعل الرياح الموسمية التي تهب من المحيط الهندي وبحر العرب ، ومناخها جاف ولطيف ومعتدل صيفا وتتراوح فيها درجات الحرارة من 20 إلى 24 درجة أما في فصل الشتاء تنخفض درجات الحرارة ليلا ما بين 7 إلى 10 درجات مئوية !!
وتنتشر القرى الصغيرة على جنبات الوادي وفي سفوح الجبال ومن يشاهد بيوتها العالية و أنوارها ليلا يخيل إليه أنها قناديل معلقة في السماء !!
وتضيء وادينا الأخضر الجميل عشرات الأحياء و القرى البديعة الرائعة الأثيرة المتناثرة في نظام فتان وكأنها حباتٌ زاهية، نثرتها يدُ المبدع العظيم في أرجاء وادي يشبم ، ليزداد خطفُهُ للأبصار وخفقهُ في الأفئدة .إنها قرى الوادي الرائع المفعم بصنوف الخير وألوان الإمتاع وصور الجمال البهيج .إن هذا الوادي الجميل ما هو إلا واحد من اللوحات الزاهية في مدن وأرياف الجنوب العربي .
هذا الوادي حينما تكسوه سحائب الخير ويسطع البرق في سمائه ويدوي هزيم الرعد في أرجائه وتهطل الأمطار عليه من كل ناحية يشكل أروع ما أودعه الخالق في بديع صنعه ممتزجة بأصوات هدير سيوله الجارفة و خرير مياهه وجداوله في منظر خلاب يصب في طيات شعابه وواديه وسواقيه ، إنها ذكريات الزمن الجميل الذي يقبع في حنايا الفؤاد وخلايا الذاكرة .
عندما كنت شاباً يافعاً تعلوني الحيوية والنشاط مقبلاً على خوض معترك الحياة بنفس طموح وهمَّة وثابة، وكان لديَّ من الثقة والاعتداد بالنفس ما يكفي لاقتحم الصعاب في أداء المهامّ والقيام بالواجبات التي تفرضها طبيعة الحياة في وادينا.
كنت أتسلق مع أقراني من الشباب وعر الجبال وننطلق لتحدي القمم العالية خاصة في موسم الأمطار صيفا ونساعد الراعيات اللاتي يحاصرهن المطر والجداول التي تعيق عبور القطيع وقد كنا نستمتع بمناظر جداول المياه والشلالات التي تنحدر من قمم الجبال وتنشر أريج تلك الأشجار وعطرها الذي يأسر الأرواح و يخترق الأنفاس خاصة عند هطول المطر!!
كنا نلقى الحفاوة والترحيب والثناء من الأهالي على نجدتنا لإنقاذ الأغنام ومساعدة الراعيات الصغيرات في تلك الأيام التي كانت تنضح بالصدق والطيبة والمحبة هذه ومضات من ذكريات جيل رائع كنا بعض أهله وزمن ألفة ومحبة مضى.. وكم نتمنى أن تعود فينا روح تلك الأيام!!
لقد كان زمنا صعبًا في بعض جوانبه حيث كنا نتحدى الصعاب ونركب الأخطار من أجل البقاء… من أجل عيشٍ كريم رغيد أبيّ تربىّ فيه أُناس أُباةٌ يشهدون على ذلك الماضي الرائع الذي كانت تحوطنا فيه أكفُّ أباء وأجداد
مكافحين يقّدرون نعم الحياة، أمهات وجدَّات وعمات وخالات رائعات حكيمات لا تفتر ألسنتهنّ وقلوبهنّ عن الدعوات الصالحات.سقى الله تلك الديار وحماها ورعى الباقين من أهلينا فيها ومتعهم بالصحة والعافية فما زلنا نعيش عبق تلك الأيام الرائعة ورغم مرور سنوات طوال على تلك الذكريات إلا أنها تومض كلما أحاطت بنا الأزمات لتنور لنا مسالك الحياة وتؤكد لنا أن الخير لا زال موجودا في هذه الدنيا ولكنها دورات الحياة التي جعلها الله صراع بين الحق والباطل إلى قيام الساعة .
د. علوي عمر بن فريد