د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):
حديث الذكريات " المعلامة في الصعيد"
في مرحلة مبكرة من طفولتي أدخلني أبي المعلامة لتعلم القرآن الكريم في معلامة المعلم أحمد سالم المرصعة رحمه الله وقد كان صارماً وعنيفاً مع الصغار الذين لا يستوعبون بسهولة .. وكان يقابل ذلك بالضرب بالعصا وشد الأذن ليس هذا فحسب بل وإلى الركل بالأرجل أحيانا ويعتقد سامحه الله أن أساليب العنف تلك هي الوسيلة المثالية لتعليم الأطفال وكنت واحدا منهم ، وكرهت المعلامة كرهاً شديدأً بسبب ما كنت أتعرض له من عنف وضرب ..!!!
وكان الدوام يبدأ بعد الغداء كل طفل منا كيسا من الكار الأبيض يعلقه على كتفه وبداخله لوح خشبي وقلم من القرط أي قصب الذرة ودواة من الحراب أي الشحار أو الحراب الأسود الذي يتجمع على سقف المطبخ .. ويحمل كل طفل على ظهره كيساً من القماش بداخله نسخة من جزء عم ،ولوح خشبي وقطعة حمراء من الحامور وهو حجر كلسي أحمر اللون نمسح به اللوح بين الحين والآخر بعد خلطه بالماء حسب الحاجة..وكنت انطلق من بيتنا في الهجر واعبر في السواقي متجها إلى السوق وكان أبي يتابعني من نافذة الحصن ويرصدني ولكنني اختبئ في الساقية بحيث لا يراني ثم يناديني بأعلى صوته طالبا مني الذهاب إلى المعلامة وأتلكأ في الطريق ثم أذهب مكرهاً ..
وأحياناً أهرب ولا أذهب إذا غاب أبي ويرسل المعلم في طلبي ثلاثة من الأطفال أكبر سنا مني وأقوى ، ويقول لهم : ها توه سحبا وعندما أراهم مقبلين نحوي أتسلق كالقرد سواري شجرة السدر " علب نوبه " في الساقية القريبة من بيتنا وأصل إلى أعلاها ويحاولون إقناعي بالنزول والذهاب معهم وأنا أرفض مرافقتهم ..
ويستمر الجدال بيننا حتى يملوا وينصرفوا عني ثم انزل من العلب واهرب إلى الوادي ثم تغير المعلم المرصعة وحل محله المعلم أحمد عمر بانافع وكانت المعاملة في عهده أفضل !!!
دخلنا المعلامة في سن الطفولة المبكرة ومقرها كان في مدرسة آل الحداد في وسط سوق مدينة الصعيد وكانوا يجمعون الصغار في المحضرة الرئيسية في الدور الثاني منها .وكان معلمنا الشيخ أحمد عمر بانافع ، يقسمنا إلى حلقات لا تزيد عن خمسة أطفال يدرسون في جزء محدد من القرآن الكريم ولكي يسيطر على الصغار وعددهم أحيانا لا يتجاوز ستين طفلاً ويرددون الآيات القرآنية بأصوات عالية .. وفي يد كل واحد منهم مصحفا خاصا به ..ويعاقب المشاغبين ويطلب من كل واحد منهم أن يحني رأسه ويقرأ في الجزء الخاص به ولكي يثبت رأسه يضع نواة الدوم (العجرة) فوق رقبته من الخلف ..يعني في خورته باللهجة المحلية..!!
وإذا تحرك أو تلفت أو رفع رأسه وسقطت العجرة لسعه في ظهره بسوطه الجلدي الطويل وأعادها من جديد .. ثم يستدعي أفراد كل مجموعة ويستمع لهم وهم يقرؤون القرآن الكريم واحداً تلو الآخر والويل والثبور وعظائم الأمور لمن يخطئ فالسوط يلسع ظهره كالبرق الخاطف ويطلب منه الإعادة مرة أخرى حتى يستمع له من جديد !!!
ويوم الخميس يحضر كل طفل منا ‘‘صرة‘‘ من البن والزنجبيل قهوة المعلم وهذه عادة معروفة وإلزامية للجميع ،كما يقوم الآباء بسداد مصاريف شهرية للمعلم حسب إمكانياتهم المادية .. وعندما يختم الطفل القرآن الكريم يقام احتفال في المعلامة للذين أتموا ختم القرآن ويحضر آباؤهم ويدفعون للمعلم من ريال إلى ريالين فرنصة (ماريا تريزا) العملة الفضية السائدة في تلك الأيام ويخرج كافة الصغار من المدرسة إلى السوق ثم يتجهون إلى بيوت الناجحين يزفونهم في الطرقات بالأناشيد الدينية ،ولتلك المعلامة الفضل الكبير في تعليمنا الصلاة وما نقرأ فيها من قصار السور حفظا والركوع والسجود والتحيات والأدعية وكنا نتمرن عملياً عليها بأداء صلاتي الظهر والعصر جهرا .. بحيث يتقدمنا أحد الطلبة الكبار في السن في المراحل المتقدمة ويقرأ لنا ما يقال في الصلاة جهرا ونحن نردد خلفه لكي نحفظ الصلاة ونؤديها بصورة سليمة .. كل ذلك يجري تحت بصر المعلم الشيخ احمد عمر غفر الله له وجزاه عنا خيرا .
والى اللقاء في موضوع جديد
د علوي عمر بن فريد