الحبيب الأسود يكتب:
هرولة الأوروبيين نحو طرابلس: إخراج المرتزقة أولا
يندفع الأوروبيون بقوة نحو ليبيا، الأيام الماضية شهدت زيارات مكثفة أداها رؤساء حكومات ووزراء خارجية إلى طرابلس، وتصريحات واضحة حول ضرورة دعم حكومة الوحدة الوطنية في قيادة المرحلة الانتقالية نحو انتخابات الرابع والعشرين من ديسمبر، والتي تحول موعدها إلى تاريخ مقدّس لدى الأوروبيين والأميركيين، إضافة إلى التأكيد على الملف الأبرز وهو مغادرة القوات الأجنبية والمرتزقة للأراضي الليبية، هذا الملف يعتبر شرطا أوروبيّا لدعم بناء ليبيا، كما أعرب عن ذلك رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل بعد اجتماعاته مع كبار المسؤولين الجدد في العاصمة طرابلس.
العواصم الأوروبية بدأت تطوي صفحات الخلافات السابقة حول نظرة كلّ منها للأزمة الليبية، الإيطاليون باتوا أقرب إلى الفرنسيين، والألمان يبدون أكثر حزما، واليونانيون عادوا من الباب الكبير بعد مقاطعتهم لحكومة السرّاج، والبريطانيون يمارسون براغماتية في محاولة السيطرة على الملفين المالي والاقتصادي من داخل أي منظومة تحكم، ولكن عودة الدور الأميركي دفع بهم من جديد إلى واجهة الموقف السياسي بتنسيق مع بقية الفاعلين، ضمن كلمة سر أساسها إجلاء المرتزقة عن ليبيا.
هناك توافق أوروبي أميركي واضح على عدم السماح بتحول ليبيا إلى منطقة تقاسم نفوذ بين تركيا وروسيا، ورغم محاولات نظام أردوغان استغلال فوبيا الروس لدى الغرب، لتبرير الإبقاء على عسكرييه ومرتزقته في الغرب الليبي، إلا أن الفرنسيين واليونانيين ممن لديهم علاقات جيدة مع قيادة الجيش، يدركون أن الأتراك يهدفون بذلك إلى إدخال العواصم الغربية في حلقة مفرغة، وهي: من أين يبدأ خروج المرتزقة أولا؟ من غرب ليبيا أم من شرقها؟ ويعلمون كذلك أن القرار في المنطقة الشرقية فردي ويمكن اتخاذه في أي لحظة، ولكنه في المنطقة الغربية موزع على مراكز نفوذ، من بينها قوى الإسلام السياسي واللوبي التركي التي عبر عن موقفها رئيس مجلس الدولة الاستشاري خالد المشري خلال لقائه وزير خارجية فرنسا لودريان الأسبوع الماضي بالعاصمة النيجرية، ومفاده أن وجود تركيا شرعي وناتج عن اتفاقيات أبرمتها حكومة الوفاق.
القضية تبدو شائكة وعويصة، فالوضع في ليبيا، ورغم تولي سلطات جديدة الحكم بدعم أممي ودولي غير محدود لا يزال متأزما، شيء وحيد اختلف وهو أن الصراع تحول من فوق الأرض إلى تحتها، والثقة لا تزال مفقودة بين مختلف الأطراف، والجراح لا تزال تنزف، وأمراء الحرب والميليشيات والإسلاميون بمختلف توجهاتهم والجهويون وتجار الحروب وبارونات الفساد لا يريدون توافقا جديا لتوحيد المؤسسات وخاصة منها العسكرية والأمنية، ولا حتى تنصيب مسؤولين جدد على رأس المؤسسات السيادية وفق اتفاق بوزنيقة، ولا يريدون الاعتراف بحل شامل لا يقصي أحدا، بما في ذلك المشير خليفة حفتر، هم فقط يسعون إلى تحويل اتفاق جنيف إلى نسخة ثانية من اتفاق الصخيرات، بل إن جانبا كبيرا منهم لا يريدون للانتخابات أن تنتظم في موعدها، خوفا من أن تؤدي إلى فوز أطراف لا يريدون لها أن تكون على سدة الحكم.
الأوروبيون لن يصمتوا كثيرا على موضوع المرتزقة في ليبيا ولا على ملف الميليشيات وهم على تنسيق كامل مع واشنطن ويعتبرون أن إخراج القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا أمر غير قابل للمساومة
الأوروبيون يدركون ذلك، ويعلمون جيدا أن أغلب المتمترسين وراء الوجود التركي لا يريدون للسلام أن يتحقق، ولا لخارطة الطريق أن تنفذ، ولا للانتخابات أن تتم، إلا وفق مصالحهم، واستمرار الميليشيات بذلك الشكل المناقض سواء لاتفاق برلين أو لاتفاق جنيف، يعني أن الأوضاع الحالية المنبثقة عن اجتماعات ملتقى الحوار وانتخاباته تبقى هشّة، ولن تؤدي إلى انتخابات شرعية، وقد تدفع نحو الانقلاب على أي نتائج مغايرة لمصالح المحور التركي، تماما كما حدث في صيف 2014 عندما انقلب الإخوان على نتائج الانتخابات البرلمانية بعملية فجر ليبيا التي أدت إلى الانقسام الذي عرفته البلاد لمدة سبع سنوات.
لا يزال الإسلام السياسي في المنطقة يراهن على ليبيا، بعد تراجع مشروعه وانحصار مدّه في دول أخرى، والمشكلة التي تواجهه أن حضوره في الشارع الليبي ضعيف ويكاد يكون منعدما في أغلب مناطق البلاد، وهو غير قادر على تلافي هذا الواقع خلال أشهر قليلة تسبق الانتخابات. وفي الأثناء لا يزال يرى أن صراعه لا مع الجيش فقط وإنما أصلا مع فكرة وجود مؤسسة عسكرية، هو صراع وجود ، كما أن أغلب محاولاته التحالف مع رموز النظام السابق باءت بالفشل، ولم يعد له إلا أن يراهن على عدم تنظيم انتخابات في موعدها، أو الدفع من وراء الستار نحو حرب جديدة فاصلة على الأقل للقضاء على أي دور منتظر للمشير حفتر.
أي سلام في ليبيا يحتاج إلى مصالحة وطنية، هذا ما يوصي به الأوروبيون، وأي مصالحة تحتاج إلى طي صفحة الماضي، وإعطاء الكلمة للشعب من خلال الانطلاق نحو الانتخابات، وأي انتخابات تحتاج إلى أمن واستقرار، وإلى حل الميليشيات وجمع السلاح بمجهود دولي، وكل ذلك يحتاج أولا إلى إخراج المسلحين الأجانب، وهذا ما يريده العالم ولا تريده تركيا والدائرون المحليون في فلكها، ففي الثالث والعشرين من يناير الماضي انتهت مهلة حددها اتفاق جنيف للجنة العسكرية المشتركة لسحب المرتزقة من البلاد، ولا يزال الوضع على ما هو عليه. قالت تركيا إنها مستعدة لسحب مرتزقتها من مسلحي الميليشيات السورية الموالية لها، شريطة أن يفسح لها المجال بتطور حضورها العسكري النظامي وخاصة بعد أن انتهت من تجهيز قاعدتيها الجوية والبحرية في غرب ليبيا، وهذا ما لا يرضي القوى المنادية بضرورة أن تستعيد الدولة سيادتها على جميع أراضيها بعد إجلاء كل المسلحين الأجانب سواء كانوا نظاميين أو مرتزقة.
قبل أسابيع كانت إيطاليا تعمل على ضمان مصالحها في ليبيا بالتعاون مع الأتراك، واليوم هناك شيء مختلف، فروما على تنسيق كامل مع باريس، وهناك بوادر أزمة حقيقية مع أنقرة بعد نعت رئيس الحكومة الإيطالية ماريو دراغي الرئيس التركي بأنه ينحو نحو الدكتاتورية، وهو نعت ينسجم مع حملات أوروبية ضد نظام أردوغان، سواء بسبب مواقفه الداخلية أو الخارجية، ولاسيما موقفه من ليبيا، فالأوروبيون لا يريدون لمصالحهم سواء في ليبيا أو في الضفة الجنوبية للمتوسط، أو في منطقة الصحراء الكبرى، أن تكون رهينة النفوذ التركي، أو تقاسم النفوذ بين أنقرة وموسكو.
لن يصمت الأوروبيون كثيرا على موضوع المرتزقة في ليبيا، ولا على ملف الميليشيات، ولا على أي محاولة للانحراف باتفاق جنيف العسكري وخارطة الطريق السياسية، وهم على تنسيق كامل مع واشنطن، ويعتبرون أن إخراج القوات الأجنبية والمرتزقة أمر غير قابل للمساومة، بل ضرورة لتحقيق الحل السياسي في ليبيا، ذلك ما أكد عليه رئيس المجلس الأوروبي ليس فقط في طرابلس، وإنما في أنقرة بالذات.