د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):
رمضان وحديث الذكريات (4)
بعد أن قضيت يومين عند جدي أحمد توجهت للسلام على جدي مجلبع الذي يقع قصره على قمة جبل حلاب جنوب وادي سرع حيث عبرت في الأطيان ووصلت إلى سدة القصر المنيعة المصنوعة من خشب العلوب القوية وقطع الحديد .. ويتكون الحصن من ثلاثة ادوار وسطوح ونوبة وسلمت على جدي مجلبع في محضرة الضيوف في الطابق الثاني ثم صعدت إلى أعلى السطح لأمتع ناظري بمنظر وإطلالة خرافية ..وشعرت كأنني أطل من طائرة ..وعندما نظرت شرقا رأيت أملاكنا الزراعية وعطفة وادي سرع وشعابه ومساييله حتى كوم حبره وعندما نظرت شمالا شاهدت مطرح آل باسويد ووادي مقبلة وعندما نظرت غربا شاهدت قرية المصينعة و جنوبا شاهد ت بعض الشعاب التي تنحدر سيولها من جبال الكور وفي سفوحها شاهدت خيام بعض البدو الرحل , والحصن متقن البناء على الطراز السائد في منطقة العوالق . وقد سمي جدي مجلبع على اسم جده فريد بن ناصر ولكنه غير اسمه إلى مجلبع تواضعا منه وقال : من أنا ؟ لن أصل إلى كعب رجل جدي الشيخ فريد بن ناصر حتى انتحل اسمه !! ؟؟
وكان جدي الشيخ مجلبع بن مرصاص بن فريد من أكرم الناس في وادي يشبم ولا يجاريه احد في كرمه وجوده وحبه للضيوف حبا جما وفي الليلة التي لا يأتيه ضيف إلى داره يحزن ويقول : الليلة لا يوجد سراج في البيت !!.
ومكثت في ضيافته يوما كاملا وفي الصباح الباكر ودعته ثم استأذنت جدي أحمد للعودة مع الرجل الذي يرافقني للعودة إلى الصعيد !!
ونبقى مع ذكريات رمضان ..وفي سنة من السنين حل وهل علينا رمضان في فصل الشتاء وقد انتهى المزارعون من موسم القمح وقاموا بأعمال الحصاد ورص المحصول في الاوصار " البيادر " , وكان بعض المزارعين يستأجرون الحراس البدو ليلا لحراسة محاصيلهم وقد حرس محصول القمح لدينا أحد هؤلاء وكان في الخمسين من عمره ذو لحية كثة اختلط السواد فيها بالبياض وتساويا معا وكان الرجل قليل الكلام اسمر البشرة مربوع القامة يلبس فوطة داكنة اللون وقميصا نصف كم بأزرار عريضة ويضع على رأسه عمامة سوداء اللون وينتعل أحذية من الجلد محلية الصنع ويضع بندقيته إلى جواره ولا ينام ليلا ويسهر حتى طلوع الشمس ثم يذهب إلى بيته للنوم نهارا ثم يعود إلى الوصر عصرا .
وكنت آنذاك ادرس في المرحلة الابتدائية وقبيل الإفطار في رمضان احمل له إفطاره اليومي من منزلنا في الصعيد ولديه نوط جلدي صغير معلق بالعلب وماؤه ابرد وأطيب من ماء الثلاجة اليوم , وكان والدي رحمه الله يستن عادة سنوية طيبة حيث يقوم في أول يوم من رمضان في كل عام بذبح خروف وتقوم والدتي بطبخه في قدر كبير يتسع لكامل اللحم وقبيل الغروب يتم توزيعه في طاسات مغلقة من المعدن لها رزة أي ما يشبه قفل الحقيبة ويتم إغلاقها بمزلاج صغير من الخشب متصل بخيط سميك ومبروم ويتم توزيع تلك الطاسات المغلقة التي يزيد عددها عن الثلاثين على الأقارب والجيران القريب والبعيد في أول يوم في رمضان. وبعد الإفطار نؤدي صلاة المغرب ثم نفطر على ما تيسر ثم نصلي صلاة العشاء ونتبعها بصلاة التراويح ويؤمنا والدي رحمه الله في سطح المنزل وبعد الانتهاء من الصلاة نتناول طعام العشاء ولا يوجد في ذلك الوقت أي وسائل إعلامية غير الراديو ويتابع أبي نشرات الأخبار من راديو لندن أو صوت العرب ومحطة عدن الإذاعية . وكان الشيخ أحمد بن أبي بكر بانافع صديق حميم لوالدي ويعيش في عدن ولديه تجارة رائجة في سوق الطعام بعدن "كريتر " وكان يرسل لوالدي كل عام مصاريف شهر رمضان وخاصة المواد الغذائية التي لا توجد في الصعيد ويرسلها مع سيارات النقل الكبيرة وتستغرق رحلتها حوالي أربعة أيام نظرا لوعورة الطريق وطبيعته الجبلية ، وكان الإسفلت من عدن ينتهي عند مركز العلم التابع لسلطنة الفضلي آنذاك ، وكان الأطفال يشعلون الطماش منذ بداية شهر رمضان ليلا ونهارا وكل ما اقترب العيد ازدادت وتيرته وفي إحدى السنين وكنا في رمضان تم حظر بيع وإشعال الطماش في الأسواق والأحياء في جميع أنحاء الصعيد وبأمر من إدارة مشيخة العوالق العليا منع بيعه واستعماله وكنا نشتريه خلسة وأسباب المنع كان الثوار في كور العوالق يشنون غارات على المراكز الحكومية نهارا مما سبب في إرباك الجنود واختلط عليهم الأمر بين أصوات الرصاص من الطماش !!
وتم تكليف لعور البرد وهو عسكري في الشرطة المحلية في الصعيد بالقبض على من يشعل الطماش وفي احد الأيام في نهار رمضان صباحا خرجت مع مجموعة من الأطفال أمام بيوتنا وآخذنا نشعل الطماش وشاهدنا لعور البرد وهو مقبل نحونا ويتظاهر أنه متجه إلى بيته وإذ به يقبل علينا يجري ويطاردنا ثم تفرقنا وقد هرب البعض منا و استمر يلاحقني ومعي ثلاثة من الأطفال من أبناء عمومتي وألقى القبض علينا ثم اقتادنا إلى الإدارة وأدخلنا على أبي وكان في منصب الحاكم العرفي أي مدير الأحوال المدنية وقال له : هؤلاء أولادكم يعصون الأوامر فمن سيمتثل للقانون ؟ وللحديث بقية في حلقة الغد .
د.علوي عمر بن فريد