د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):

رمضان وحديث الذكريات (5)

بعد أن أحضرنا الشرطي الغليظ لعور البرد إلى مكتب أبي في إدارة المشيخة ، وقفنا مرعوبين خوفا من السجن الذي يقع في نهاية الرواق في الدور الأرضي  وكان النهار ضحى ونحن صياما ، تكلم معنا أبي بحديث ممزوج بالحزم والرأفة بصبية صغار لا يدركون عواقب الأمور ثم طلب منا عدم تكرار ذلك وسامحنا على أن لا نعيد ذلك مرة أخرى .. ولم نصدق أننا نجونا وخرجنا من الإدارة وأطلقنا سيقاننا للريح وعدنا إلى بيوتنا وكان السحاب الأسود يغطي السماء والرعد يقصف بصوت مرعب ويتبعه البرق يلمع في السماء ويضرب في الأرض ..أصوات ينخلع لها الفؤاد  سبحان الله العظيم ما أرحمه بعباده !!
وما هي سوى دقائق وينهمر المطر بغزارة  ويشكل ما يشبه الحبال المتشابكة حتى يدفن الجبال وتنعدم رؤيتها من غزارة المطر .. وكما هي عادة الأطفال وحب الاستطلاع لدينا نخرج رؤوسنا من نوافذ البيت وتتعالى أصوات أمهاتنا  في توبيخنا خوفا علينا ولكن شقاوتنا وحب الاستطلاع يجعلنا لا نستجيب لهن !!
وبعد حوالي الساعة يخف هطول المطر ونخرج مباشرة إلى الخلاء وصراخ أمهاتنا يستمر خوفا علينا من السيول وأجمل ما كنا نراه قوس قزح الذي يتشكل في السماء بعدة ألوان جميلة تأسر الألباب ثم نتسابق لمشاهدة مناظر الجبال المحيطة بالصعيد والشلالات تنهمر من أعلاها ونشاهد الثعابين والعقارب تخرج من مخابئها تلمسا للأجواء الباردة المنعشة وهي تجري ونحن نجري ولا تتعرض لنا ولا نتعرض لها سبحان الله العظيم ،ونتوجه في مجموعات من الصبية إلى ساقية النقوب التي تقع تحت مطرح الهجر حينا العتيد و تزيد مساحة الأطيان التي ترويها بحوالي 30 فدانا وتتدفق السيول من مربون وضومرين وشعاب القاع وعندما تتدفق السيول تقطع ساقية النقوب ويتحول السيل الكبير إلى وادي مربون ويقطع معظم السواقي والحواجز الترابية من قوته وشدة اندفاعه ويخرج الرجال وهم يطلقون الأعيرة النارية فرحا بقدوم السيل وهم يصيحون : واحيل حيلوه بالسيل ويرد عليهم البعض بالقول : بشرك الله بالخير !!
ونحن معشر الأطفال نتابع بشغف وفضول وحب استطلاع تلك المشاهد الحية بسعادة بالغة وثيابنا مبللة من المطر ونجري فرحين حفاة دون أحذية وقد تلوثت ثيابنا بالوحل وأحيانا  ينغرس  الشوك في أرجلنا ونخرجه والدم يقطر منها ولا نبالي وقد نسينا آلامنا في غمرة الفرح !!
ونعبر فوق معبرة خشبية حتى لا يجرفنا سيل الساقية طولها يزيد عن المترين وعرضها حوالي المتر لنصل إلى ضفة الوادي الشمالية لنشاهد السيول الجارفة التي تتدفق في وادي مربون والسيل  يقفز فوق الصخور ويهدد الحواجز الحجرية  بقوة اندفاعه و لونه ترابي وله رغوة بيضاء وأمواجه عالية ويجرف بعض الأشجار في طريقه  في حين ينتشر الناس على أسوام الطين ومعهم مجارفهم تمهيدا لدخول الماء إلى مزارعهم في وادي يشبم الذي يمتاز بالخصب والنماء رغم المساحات الزراعية المحدودة الواقعة على ضفتي الوادي ، وتحمي تلك الأطيان جدران عالية من الحجارة يصل ارتفاعها أحيانا إلى ثلاثة أمتار  لتحمي الأطيان من السيول ، ويتفرع من الوادي سواقي وقنوات صغيرة لتنظيم الري بطريقة عادلة ، كما يتم بناء القيود الحجرية في الوادي لتخفيف حدة اندفاع السيول التي تتدفق ابتداء من شهر يوليو حتى شهر سبتمبر من كل عام .
وإلى اللقاء في الحلقة السادسة
د. علوي عمر بن فريد