عبدالكريم مباتة يكتب لـ(اليوم الثامن):
أزمة المصطلحات في العالم العربي.. بين ضبابية المعنى وهلامية تلقيه
في مجتمعاتنا العربية ، لا زلنا نعاني لغويا، وإن كنا ندعي أننا نمتلك أرقى اللغات وأقدمها، والتي ينحصر نطاق تداولها في حقول الدراسة والخطاب الديني والسياسي والأكاديمي والإعلامي، فإن هذا لم يشفع لنا ولا للغتنا العربية، حيث أصبحت باعتراف جميع المتخصصين في اللغة، تعاني أشدّ المعاناة في مسايرة العصر وتحولاته وتطوراته في حقول علم اللسانيات المختلفة.
انطلقت هذه المعاناة ببداية احتكاك اللغة العربية بلغات الغرب في عهد ما بعد الحملة الفرنسية، بدأت مولَّدات لغوية تدخل القاموس العربي، تولدت عبر محاولات لترجمة مصطلحات كانت تُعبر عن انفجار في المنتج الفكري عند الغرب، و تصف معاناة فكرية وتجربة خاصة بحضارته، لن تكون خاصة به وحده بعد انفتاح العالم على نفسه، خصوصا بعد دخول البشرية في عصر المعلوماتية.
إثر هذا الإحتكاك بين العربية ولغات العالم الغربي، برزت آلاف من المولدات اللغوية التي لا تزال لم ترقى إلى صفة مصطلح، وذلك لضيق تداولها من جهة، ولضبابية دلالاتها من جهة أخرى، فلا زالت تلك المولدات لم تخضع لعملية تقييس لغوية، تجعل منها مصطلحات معجمية ثابتة محددة تُطرح للتداول الخطابي، دون أدنى لبس في دلالاتها.
يعود سبب هذه المعاناة اللغوية الخاصة باللغة العربية دون غيرها من اللغات، إلى أسباب كثيرة منها ما هو عضوي لغوي ومنها ماهو خارج عن اللغة وله علاقة أكثر بالإيديولوجيا، ولكنني لن أذكر في هذا المقال إلا سببا عضويا واحدا أعتبره أكبرها وأهمها، ويتمثل في غياب مؤسسات حقيقية تهتم بالعمل المعجمي والتقييس، إذا استثنينا بعض مخابر البحوث المعجمية والمقايسة المشتتة هنا وهناك بين المغرب الأقصى وقطر، والتي لا تتعدى مجرد مكاتب قليلة الإمكانيات ، محدودة التدخل، والتي لا يتعدى عملها ملاءمة المصطلح وتوطينه بدل مقايسته و تعجيمه.
ومن أجل تقريب المشهد للقارئ الكريم، سآخذ مثالا عن مصطلح كثير التداول، بل أصبح مشهورا لدرجة أنه أصبح يَرِد على ألسنة العامة من غير المتخصصين، حتى كاد يصبح في جانب من جوانبه مصطلحا عاميا واسع التداول.
العَلمانية "بفتح العين" مُولّد من بين الآلاف من المولّدات، دخل القاموس العربي بعد موجة الترجمة الأولى في عهد التنوير العربي الأول مع كثير من المُولّدات التي لم ترقى إلى صفة المصطلح، حيث لا تزال حبيسة الشك والتململ الإيتيمولوجي، و لم تجد بعد مكانها في منظومة الحدود الراسخة في اللغة العربية، ومنها مصطلحات كالحداثة و ما_بعد_الحداثة، و التي لا تزال لم تحدد معانيها حتى في اللغات الأصلية التي نحتتها ورتبتها، كاللغة الفرنسية مثلا، ولكننا كعرب لا ادري من أين نملك ذلك التهور لنتكلم بها دون حتى التوافق على معانيها، ودون العلم حتى بحدودها، وجعلنا منها مجرد كلمات عامية يكاد يستعملها كل من هب ودب ويعطيها ما يشاء من دلالات و تصورات.
العَلمانية مصطلح دخيل على العربية من السريانية انتقالا وتحويرا، وهو يحمل خمسة معاني مختلفة اختلافا جوهريا إيتيمولوجيا سيميائيا وسيميولوجيا، وهذا فقط عند العرب المتخبطين تخبط السكران في عالم الدلالات اللغوية فيما يخص مجال العلوم والفكر الحديث، ولكنه في اللغات الأخرى محدد تحديدا دقيقا لا يسمح للتلاعب به من أي كان.
العَلمانية بفتح العين، عند العرب على عكس كل الأمم الأخرى، تحمل خمسة معاني ودلالات لا علاقة للواحد منهم بالآخر وربما اختلفت حتى من حيث حقولها الدلالية وهي كالتالي :
اولا: هي تحمل المعنى الذي انتقل من اليونانية للغات الغرب والذي تحدده كلمة laïcisme والتي تعني العامي أو العمومي و الذي يقابله معنى رجل الدين أو علوم الدين، وهذا المعنى مكرس عند رجال الدين العرب الذين يطلقونه على كل غير متخصص في الشريعة حتى لو كان أستاذا جهبذا في اللغة والنحو. وهنا نلاحظ أن كلمة عامي او علماني لا علاقة لهما ببعض في الإستعمال الخطي التفاعلي، وربما يلتقيان في الإستعمال العمودي التطوري للغة، مما يجعل كلمة عامي في اللغة العربية لا تلتقي أبدا بكلمة علماني إلا ضمنيا مع جدار من الضبابية في الدلالة.
ثانيا: لها معنى الدنيوية أو sécularisme والذي استعمل لأول مرة في القرن التاسع عشر في إنجلترا وهذا كذلك أمر مُربك في مجال الإصطلاح، إذ يصبح ذو حدين متباعدين سيميائيا وسميولوجيا. فالدنيوية مظهر للعلمانية هنا وليس جوهرا. وهذه مشكلة عويصة أيضا. وهنا يصبح مصطلح العَلمانية في اللغة العربية حاملا لمفهوم ومظهر قد يجعل الخطاب مرتبكا إذا ما كان الخطاب يريد معالجة المظاهرية في المفهوم وتطبيقاته في مجال معين، أو يريد التحدث عن منهجية فكرية ما.
ثالثا: العلمانية عند العرب تحمل أيضا معنى laïcité الذي ظهر زمن الثورة الفرنسية محاولا تضييق حدوده وإعطائه معنى خاصا بحقل السياسة والحكم والدولة والذي يعنى فصل الدين عن الدولة. وهنا تقع إشكالية في مقاربة خطاب أحدهم، إذ يجب أن يحصر مجال خطابه قبل التوسع وإلا اختلطت الآلية بالمنهج بالفكرة.
رابعا: وهذا الاستعمال الرابع درج عند الكثير نطقا لا حدّا وهو مُستعمل من الكثيرين بكسر العين، العٍلمانية، والذي له علاقة بالعلم والعلوم التطبيقية و التجريبية أو النظرية العقلية، التي تقابلها على الضفة الأخرى العلوم الدينية و الميتافيزيقية. وهنا نرى اهتزازا كذلك في الاستعمال بين العَلمانية والعٍلمانية، وعدم تحديد لحدود المصطلح حتى لا يخرج عن المراد في الخطاب، وتداخله مع كثير من المصطلحات المُولّدة الأخرى كمصطلح علمي، عقلاني، عقل تجريبي، مادي، دهري.
خامسا: استعمال آخر لمصطلح العَلمانية مرتبط بالضمير الجمعي للمجتمع العربي والذي انحرف بمصطلح عَلمانية إلى الحكم به على عقائد الناس ومعتقداتهم وأصبح رديفا لا مرادفا لمصطلحات كملحد، إلحاد، فاسق، فسوق، زنديق، زندقة، كافر، كفر.
نلاحظ من الاستعمالات الخمسة ، اختلافا جوهريا بينها، فالمعاني الثلاثة الأولى ترسخت في الاستعمال الأكاديمي، على ضبابيتها ، أما الاستعمالين الأخيرين، فقد تواطأ عليهما بشكل مربك المجتمع العربي، مما يجعلني أصنفهما في مجال الاستعمال العامي.
الأصل اليوناني لمصطلح علمانية، انسحب للسريانية بمعناه الحقيقي، وينطق عالمايا ، بمعنى العالمي ، وقد كان أول الأمر ينطق في العربية عالماني بمدّ العين، ثم تحور إلى عَلماني، ثم انفجر إلى مضامين متناقضة متداخلة لا تكاد تحُدّ معناه، مما يجعل استعماله الأكاديمي وحتى العامي أمرا صعب السيطرة عليه لسانيا.
وهذا مرده كما أسلفنا ذكره في بداية الأمر، إلى المشاكل التي تعاني منها حركة الترجمة العربية، والتي تصدى لها أناس جعلوا من نحت الكلمات وتوليدها مسؤولية فردية، لا حركة مُتضَمَّنة في إطار حضاري أممي يخص مستقبل لغة عريقة كاللغة العربية. فأهملوا كثيرا من مشاكل الترجمة ولم تأخذ حظها من الدراسة الحقيقية، خصوصا مشكلة السوابق واللواحق suffixe et préfixeفي اللغات ذات الأصل الإغريقو-لاتيني، والتي تحمل بعدا منطقيا سيميائيا يصعب أن تحمل للغة العربية دون دراسة معمقة وتفاهم بين المتخصصين.
إن هذه المصائب التي نراها في استعمالات اللغة العربية، والتي وسعتها وعمقتها حملة الترجمة من لغات أخرى إلى اللغة العربية وفضحت جوانب التقصير والإهمال من أطراف كثيرة على رأسها الحكومات، لا يمكن التصدي لها إلا عبر سياسة دولة حقيقية واستراتيجية طويلة الأمد، من أجل ترسيخ لتقاليد لغوية داخل الوطن العربي، واعتماد مؤسسات لغوية قوية مزودة بجميع الإمكانيات تدخل في إطار استراتيجية دولة للأمن القومي، فالأمن اللغوي في رأيي هو جانب مهم جدا من الأمن القومي لأي دولة.
وفكرة المجامع اللغوية لم تعد تواكب عصر المعلوماتية السريع التطور، ووجب اعتماد مؤسسات جديدة متعددة التخصصات اللغوية، تُندب للدراسات اللغوية وتسطير السياسات اللغوية للدولة، الموجهة نحو ضبط معجم لغوي والتصدي للمنتوج الفكري ومواكبة تطوره بتطوير قواعد مصطلحية تستطيع حمله وتبليغه و تعليم اللغة الأم و اللغة الثانية إن وجدت واللغات الأجنبية.
إن إهمال اللغة وتركها أرضا مشاعا لكل طاعن، يخوض فيها كما يشاء، جعل العقل العربي المعاصر يعاني لغويا، وسيظل يعاني إلى يوم تفكر فيه الدول العربية ومنها الجزائر في إعادة ضبط للغة العربية، الحاملة لخطابات متناقضة عضويا، حتى أصبحت بمشاكلها المعاصرة منبعا لكثير من الأزمات الاجتماعية والفكرية، وظهور خطابات نشاز متضاربة متناقضة يكاد يكون سبب تناقضها مشتركا وهو عدم ضبط المصطلحات.
وفي الأخير، الجزائر ليست بدعا من الدول العربية، والمعاناة اللغوية فيها لا تختلف عن غيرها من الدول العربية، نلاحظ نموا في الخطاب العنفي، والعنصري، وأقله نجد الخطاب الاقصائي المحتكر للمصطلح، ومنه مصطلح العلمانية الذي أصبح تهمة يتهم بها كل من يدعي وصلا بها سواء كان صلة عضوية أو توجها، وأصبح شبه مُحتَكر من طرف فكر عامي سبق الأكاديميين وجعل من مصطلح علمي أداة تصنيف واتهام وإقصاء، بدل أن يكون أداة نقاش وتبادل وحوار. وهناك البعد الآخر الذي يعكس واقع الجزائر اللغوي، والذي تتطور داخله ثلاث لغات اليوم، اللغات الأم: العربية الدارجة والأمازيغية بكل لهجاتها، واللغة العربية الكلاسيكية المحدودة في حقول تدخل خاصة، واللغة الفرنسية التي تعتبر لغة ثانية وليست أجنبية، واللغة الإنجليزية كضرورة اقتصادية، مشهد بتنوع لساني لا يعرف عنه المتخصصون إلا قليلا. ولا أحد يستطيع أن يحكم على نتائج تفاعلاته ومستقبله والإمكانيات التي يمكن استغلالها من تفاعل لساني كهذا.