عبدالكريم مباتة يكتب لـ(اليوم الثامن):

إشكاليات القراءة في الجزائر.. بين أزمة الفعل وسؤال الوعي

يقول الكاتب الأمريكي راي برادبوري " ليس عليك أن تحرق الكتب لتدمر حضارة، فقط اجعل الناس تكف عن قراءتها ويتم ذلك"

القراءة..! فعل إنساني شديد التّعقيد، هدفه الوظيفي هو بناء المعرفة عن طريق ترجمة الرّموز المكتوبة إلى أصوات و معاني، مما يسمح للقارئ ببناء معرفة ما والتفاعل معها بشكل وظيفي أو إبداعي. القراءة عبارة عن نشاط تتفاعل خلاله المدارك باللّغة وحِملها الثقافي و تتأثر بالسياق الاجتماعي العام للقارئ.

تعريف القراءة بهذا الشكل يدفعنا إلى اشتراط شروط مُعيّنة كي نستطيع تمييز القارئ الحقيقي من القارئ الوظيفي أهمها: بناء المعرفة والتفاعل معها مع الإستمرارية في ذلك، في عملية متكاملة دافعها الأساسي هو الرغبة الفردية الحرة في الاكتشاف والبحث عن تحقيق الذات المجتمعية عبر تكوين آراء وتصورات.

من خلال هذه الشروط، نستطيع أن نُقرر مُحدِّدات للقراءة الحقيقية الإبداعية، في غيابها لا يُمكن وصف أي قراءة بالحقيقية ولا بالإبداعية حتى وإن اعتبرناها مهمة، بل نعتبرها قراءة وظيفية لا يمكنها أن تكون فعلا حضاريا تطوريا ومُبدعا. هذه الشروط هي: الرغبة الفردية والإرادة الحرة في بناء المعرفة غير المشروطة و العمل على اكتساب آراء وتصورات جديدة لها علاقة بواقع القارئ النفسي والإجتماعي.

بتحديد هذا المعنى للقراءة الحقيقية يمكن معرفة نوع القراءة الغالب في الجزائر عبر جرد للمكتبات المنتشرة في مدن الجزائر المختلفة، حيث يلاحظ حتى غير المتخصص بأن أنواع الكتب الغالبة على الرفوف لا تبتعد عن المركزية الوظيفية، كالكتب المدرسية وحوليات الإمتحانات و دفاتر التمارينات وبعض المراجع في أساسيات بعض التخصصات ومبادئ بعض العلوم القاعدية ذات الصبغة التعليمية البحتة، و إن وجدت بعض الاستثناءات فستكون أعدادا من تلك الروايات العالمية المُكرّرة في برامج تدريس الأدب العالمي.

في المدارس والجامعات يكتفي الطلبة والتلاميذ بالدروس التي تُملَى عليهم لا يقرأون وإن قرأوا، لا تخرج مواضيع قراءاتهم عن الضرورة المدرسية. هذا النوع من القراءة لا يمكن تصنيفه في خانة القراءة الحقيقية التي تُضفي على المشهد الثقافي والفكري في أي مجتمع حركية ودينامية ضرورية. تلك الحركية التي تدفع المجتمع لاستنهاض الماكينة النقدية بشكل عضوي داخل نسيجه، ماكينة تؤهله لطرح الأسئلة الوجودية باستمرار، والتفاعل داخليا بين مكوناته المختلفة منهجيا ومعرفيا، ثم التفاعل خارجيا مع المجتمعات الأخرى في حوار ثقافي أو تثاقف حواري تفاعلي.

قد يسأل السائل: أوليس من مُخرجات القراءة الوظيفية تطوير ملكة القراءة النقدية والدفع نحو تطويرها عبر القراءة المُوَسعة أو القراءة الاستكشافية؟

كل إنسان يتعلم القراءة عبر عملية توظيف قدراته العضوية ومؤهلاته الذهنية ليكتسب ميكانيكا القراءة المقطعية والصوتية ثم يتطور لتصبح القراءة عملية معرفية معقدة؛ التطور هنا تحول من عملية توظيف إلى وظيفة ثم إلى معاني وظيفية مرتبطة بمخرجات القراءة نفسها. لكن القراءة التي لا تتعدى كونها مجرد وظيفة تصبح محدودة أو عقيمة لأنها لا تتصل بهدفها الأسمى وهو إيقاظ ملكة النقد والإبداع.

أول ما يتعلمه الطفل في المدرسة هو فكّ رموز الكتابة قراءة وفهما، ثم يتطور ليمتلك القراءة كمهارة وظيفية لكنه لا يتعدى ذلك إلى مُستوى اكتسابها كعادة أو كتقليد. المدرسة الجزائرية لا تضع القراءة خارج المنهج الدراسي ضمن الأولويات ولا الأسرة تهتم بتدريب أطفالها على القراءة بإعطاءهم المثال، وقليل فقط من الأسر الجزائرية من تمتلك مكتبة عائلية؛ فيكبر الطفل في بيئة لا يرى فيها الكتاب كجزء طبيعي من الحياة اليومية، بل يراه مرتبطا بالواجب والتكليف لا الحب والرغبة، وهذا يؤدي إلى النفور منه لاحقًا. فهل يمكن أن نفترض بأن غياب التنشئة على القراءة يُعد سببا في ضمور الفعل القرائي في الجزائر؟

الجزائريون، غالبًا ما ينظرون إلى القراءة كرفاهية لا يحتاجونها لحياتهم اليومية. والأسباب مختلفة قد تتقاطع مساراتها، منها الإقتصادية والإجتماعية وحتى السياسية، جعلت من القراءة فعلا نخبويا بامتياز. غياب سياسة تدعم الكتاب بأنواعه وأصنافه كما تدعم المواد الغذائية والطاقوية، و غياب استراتيجية ثقافية لفتح سوق الكتاب بعيدا عن المناسباتية التي لا تخرج عن تظاهرات محدودة و معارض سنوية لا تعكس الواقع ولا تجيب عن انشغالاته، خاصة وأن الكتاب كمنتج يعاني من ضعف التسويق مقارنة بوسائل الترفيه الأخرى ككرة القدم مثلا.

كل المتخصصين في الكتاب أو من لديهم رابط بالمجال يلاحظون أن أكثر الكتب مبيعا في الجزائر هي الكتب ذات الطابع الوظيفي، كالنصوص الإعلاميية أو الإخبارية والكتب الدراسية وكتب الطبخ ووصفات التنمية البشرية و الإرشادات التقنية؛ نصوص لا تحقق أكثر من المطلوب منها، كاتِّباع إرشادات أوانجاز مهمة من خلال قراءة خطية.

مكتوبات لا تحقق معاني "القراءة الإبداعية" أو كما عرفها الروائي الجزائري أمين الزاوي في مقال له بجريدة أندبندت اللندنية بتاريخ 28 نوفمبر 2024 بأنها القراءة التي تضمن للقارئ التعبير عن حريته واختياراته بعيدا عن الأبوية الفكرية والإنابة المعرفية. كما أن الهدف من القراءة الإبداعية هو الإستكشاف وتحفيز الخيال والإبداع فهي تستدعي أيضا مهارات معينة كالفهم الإستدلالي والقدرة على ربط الأفكار عبر أبعادها المختلفة.

هذا النوع المميز من القراءة والذي أقترح تسميته بالقراءة الجدلية التفاعلية، والذي يحتاج لكثير من العمل الأكاديمي لتحديد معالمه ولكنني أقترح تعريفه بأنه ذلك المسار القرائي الذي يتجاوز التكديس المعرفي، لِيُساهم بشكل مباشر وغير مباشر في صناعة الوعي الفردي والمجتمعي عبر عملية تفاعلية جدلية بين المقروء والواقع، بين الفكرة المطروحة واقعا وبين الأفكار المنصوصة، بين الأشياء ونقائضها. إنها القراءة التي تتخلل مُرَشِّحات الفهم الفردي لتصل إلى مساحات التفاعل الإجتماعي أين تلتقي الفهوم الفردية بالفُهوم المجتمعية، حيث تُفعَّل أدوات النقد فتتشكل الرؤى والتصورات وتتطور مستوعبة الواقع كمُعطى لا كمُنتهى فتجعله فضاء للتغيير و التجديد أو إعادة التشكيل.

كثيرٌ من القُرّاء الجزائريين اليوم من جيل عاش زهرة شبابه بين الستينات والتسعينات، ويبدو أن هذه الفترة أخرجت لنا أفضل القراء وألمع الكُتّاب، لا يزالون يُحيون سُنّة الكتابة والقراءة في سوق شهد أزهى أيامه في السبعينات ثم أفل نوره شيئا فشيئا ليصبح مجرد سوق وظيفية لا تحمل أكثر من أهداف مهنية لا نقد فيها ولا تبادل ولا حوار. يبدو أن هذا الأمر له أسبابه المنطقية، والتي أدت بتلك الأجيال إلى أن تكون أكثر قراءة من غيرها.

جيل السبعينات والثمانينات ورث منظومة قائمة على خريجي النظام مزدوج اللغة (عربية/فرنسية)، القائم على النموذج الفرنسي. والذي كان يولي أهمية أكبر للقراءة والكتابة ولا زلت أتذكر في بداية الثمانينات كيف كان معلمي يخصص للقراءة حجما ساعيا كبيرا وكان لدينا حصة للمطالعة نقرأ فيها كُتيبا من اختيارنا نقتنيه من مكتبة المدرسة نقرأه ونلخصه ثم نلقي على مسامع بعضنا البعض ما استطعنا استيعابه.

في تلك الفترة، كانت وسائل الترفيه محدودة بل غائبة تماما في بعض المناطق. لم يكن هناك تلفزيون ولا إنترنت ولا هواتف محمولة. القراءة كانت واحدة من وسائل الترفيه القليلة المتاحة. هل نستطيع إذا، ربط أسباب تراجع القراءة إلى تسونامي الأنترنت وتكاثر تطبيقات التواصل الإلكترونية؟ 

الغليان الثقافي والإيديولوجي في فترة ما بعد الاستقلال وسبعينيات القرن الماضي، وحاجة الفرد لتكوين معرفة وتصورات حول ما يجري حوله من تحولات، دفعت عجلة القراءة بسرعة أكبر وساعد في ذلك سياسة دعم الكتاب التي سمحت بتوفير الكتب وبأثمان زهيدة، ولقد أشرت لهذا بإسهاب في مقال لي على جريدة الصوت الآخر الجزائرية بتاريخ 11 ديسمبر 2024. ذلك الغليان الفكري كان من نتائجه أحداث التسعينات والتي دفعت بدورها شباب تلك العشرية ليتساءل أكثر حول معترك الإيديولوجية وتطبيقاته، باحثا عن الأجوبة لأسئلة وجودية ومصيرية عبر اقتحامه القراءة الموسعة.

ولكن تبقى نسبة القُرّاء ضعيفة مقارنة بدول أخرى، ومعيار المقروئية أضعف، ربما نستطيع تفسير ذلك من خلال فرضيات كثيرة يمكن طرحها بشكل جامع كما يلي:

التركيبة السكانية في الجزائر في عمومها شابة وإن كان الهرم الديمغرافي بدأ يضيق على مستوى القاعدة ويتسع نحو قمته، غير أن معدل النمو السكاني لا يزال مرتفعًا نسبيا مقارنة بدول أخرى في نفس المستوى الإقتصادي. هذه الحقيقة قد تفسر التركيز على البُعد التعليمي الوظيفي على حساب القراءة الإبداعية، فالإنسان في مرحلة البناء المعرفي الأساسي، يركز على البعد الوظيفي في القراءة أكثر من البعد الإبداعي.

الثقافة الجزائرية غنية بالتقاليد الشفوية، بل لا تزال في أغلبها شفهية غير موثقة، حيث يُعتبر الحكي والرواية الشفوية والتلقين للمهن اليدوية والفنون التقليدية عبر المُحاكاة، وحتى العلوم الدينية في المدارس التقليدية القائمة على الحفظ والاسترجاع، جزءًا هامًا من التراث الثقافي. هذا قد يؤدي إلى إضعاف الاهتمام بالقراءة، والاكتفاء بما يمليه صاحب الصنعة على المتعلم. هذا البعد الآخر من القراءة أو "القراءة بالإنابة" و الذي يعد أخطر أنواع القراءات، أعتبره نقيض القراءة الجدلية التفاعلية لاتّسامه بالسلبية، فالقارئ هنا في الحقيقة لا يقرأ بل يُقرأ له ليصبح مسلوب الرأي ومجرد مُتّبِع، مطبِّق، مُردّد، مُعيد لفُهوم غيره. هذا النوع من القراءة يدمّر جسور التواصل ويُطْبق على مُرشِّحات الفهم المجتمعي ويُضيّق مساحات الإبداع، فتتركز الفهوم في مراكز ثقل تُوجّه المجتمع بل تسيطر عليه وتحدّد له توجهاته وخياراته الإيديولوجية.

الوضع الاقتصادي الصعب للجزائر والتحديات التي تواجهها بما في ذلك البطالة والفقر، أدى إلى تقليل الاهتمام بدعم الكتاب وتوجيه الموارد المالية لأولويات أخرى. أما على مستوى الفرد المواطن، فلا يمكن مطالبته بشراء الكتب والتفكير في الحياة وهو الذي يستغرق كل وقته في التفكير بالضروريات التي تبقيه على قيد الحياة.

النظام التعليمي في الجزائر يُركّز على التعليم في بعده المعرفي التحصيلي، برنامج مُسطّر وجامد، الطالب فيه مُطالب باسترجاع ما يُعطَى له، دون تركيز على تطوير أنواع الذكاء المختلفة عند المُتعلم، ولا أنظمة لاكتشاف المواهب ومرافقتها. منظومة تعمل على تحفيز الذاكرة فقط، وإيقاع المُتعلم المبتدئ في فخ التصورات المرتبطة بالمجتمعات العربية و الإسلامية التي تُصنف ذكاء الفرد وِفق حجم ذاكرته وقدرته على تذكر المتون الطويلة وترديد النصوص الضّافية.

هناك أزمة أخرى تَتّصل بشحّ الكتب النوعية في الجزائر، كالكتب المهتمة بواقع حياة الفرد وما يحدث حوله في العالم من دراسات فلسفية وتقارير استراتيجية ومحاولات فكرية حديثة تدفع القارئ للانفتاح على بيئته الداخلية ومحيطه الخارجي. هذا الأمر قد يدفع حتى المتخصصين إلى السأم من الركض وراء الكتب خارج حدود الوطن وتحمُّل مُعاناة الحصول على آخر الإصدارات، فكيف بالقارئ العادي الذي ربما لا يهتم بالقراءة إلا في حدود المُتاح و المتوفر.

وسائل الإعلام الأخرى، مثل التلفزيون والإنترنت، قد تنافس الكتاب منافسة غير عادلة من حيث سهولة الوصول إلى المادة، وهذا قد يدفعنا لطرح أسئلة أخرى، تصل لحد إعادة التساؤل عن طبيعة القراءة نفسها. الاستماع إلى كتاب صوتي ألا يعد ذلك قراءة؟ ومن يتفرج على بودكاست لكاتب يعرض فيه أفكاره أو كتابه ألا يعتبر المتفرج عليه قارئا؟ 

القراءة اليوم، لم تعد مرتبطة بالكتب الورقية فقط. هناك قراءة رقمية، مقالات، مدونات، منشورات تحليلية. فيديوهات، تسجيلات، فهل يمكن القول إن الجزائريين لا يقرأون إلاّ قليلا، أم أن شكل القراءة قد تغيّر؟

هذه الإشكاليات ربما تحتاج إلى دراسات وتحريات أكاديمية، قد تَخرج لنا بنتائج غير متوقعة تدفعنا لطرح تساؤلات أكثر تعقيدا خصوصا وأن المجتمع الجزائري لا يزال في مراحل أولية من الإتصال بالعالم الرقمي ومنصاته التجارية وأسواقه العالمية، ولا يزال مستوى هذا الإتصال فرديا يحتاج إلى ترسيخ مُؤسَّسي وتجذير إداري وحوكمة قانونية. 

في ضوء ما سبق من التساؤلات، يُطرح تساؤل آخر. هل يمكن تغيير هذا الواقع المُعقد والمتشعب والنهوض بحال القراءة وبعثها من جديد في جسد الشعب الجزائري ؟ هل يمكن النّظراليوم بعين حداثية والدفع نحو تبني الأصناف الأخرى من القراءات ودعمها وتشجيع التنوع الفكري والتفاعل الإجتماعي؟ ما الذي يمكن فعله على المستويات التعليمية والثقافية والسياسية لإعادة الشعب الجزائري إلى جنة القراءة وترغيبه في القراءة والكتابة وتشجيعه على فتح قنوات الحوار الراقي أكاديميا وشعبيا وثقافيا وفنيا؟

الجواب على هذا التساؤل قد يدفعنا إلى طرح أسئلة عن حقيقة وجود الإرادة المجتمعية والمؤسساتية، وتوفر الظروف المواتية لرفع الفعل القرائي من مجرد فعل فردي إلى مستوى مشروع أمة. وقد يدفعنا أيضا إلى الاستشكال على كيفيات تحويل القراءة إلى عادة تُغرس في الفرد منذ نعومته، وعلى استراتيجيات تسويق الكتاب أو النص بأنواعه وأصنافه المختلفة بطريقة تجذب القارئ، والبحث في مدى نجاعة سياسات دعم المعرفة و المناهج التعليمية وتطويرها من مناهج حشو إلى مناهج تنتج عقلا ناقدا وتحليليا.

بداية رحلة بعث القراءة يجب أن تكون من مكانها الضروري ومشتلة القُرّاء الطبيعية أو المدرسة، ووجب أيضا أن يكون منتهى العملية هو المدرسة نفسها فتكتمل حينها الدورة المعرفية، وهذا حتى نجعل من القراءة الفعل الحيوي المُتّصل بالشريحة الأكثر دينامية في المجتمع وهي طبقة المتمدرسين وطلاب الجامعات أو رأس مال المجتمع من الشّباب الفاعل.

يقول فرانسيس باكون في مقالته الخمسين "الدراسات" من كتابه المحاولات : "القراءة تصنع إنسانًا كاملاً، والمحادثة تجعله جاهزًا، والكتابة تصنع منه إنسانا دقيقًا". هذه الجملة أعتبرها الوصف الكامل لتأثيرات القراءة على القارئ المبدع الذي يجعل من القراءة مصدرا لثراءه وكماله المعرفي، وسببا لجاهزيته التواصلية ودافعا له لإنتاج مقروء متكامل يستحق قارئا حقيقيا. تكتمل الدورة المعرفية إذا، عندما ينتج القارئ مقروءا، لتصبح القراءة فعلا إنسانيا يتجاوز حدود الزمكان، والأداة المركزية المُحدِّدة لأهم معالم المعرفة بأنواعها المختلفة.

في هذا المنحى وجب علينا كمجتمع جزائري ناشيء أن نتبنى استراتيجية خاصة بنا لبعث القراءة، لا يمكن أن تكون مجرد نقل عن مجتمعات أخرى، بل وجب أن تنبع أيضا من تربة الجزائر ومن منتوج عقلها الجمعي المبدع الخاص بها.

على العقل الجزائري إذا، سياسة ومجتمعا، أن يبني استراتيجية مبنية على مفاهيم تتجاوز القراءة نفسها، وتبتعد عن الوظيفية فيها لتعانق المعاني الإنسانية باعتبارها أكثر ما يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات، وإن كنت مضطرا لإعادة صياغة تعريف الإنسان فستكون القراءة هي المُعَرِّف الأكثر تمييزا له.

وعليه، بدل اعتبار القراءة وسيلة فقط، وجب اعتبارها هدفا في ذاتها، وفي هذا الصدد يقول هارولد بلوم في كتابه "كيف نقرأ ولماذا؟" : ""اقرأ بعمق، ليس لتؤمن، وليس لتقبل، وليس لتعارض، ولكن لتتعلم كيف تشارك في تلك الطبيعة الواحدة التي تكتب وتقرأ." بهذا يحاول بلوم أن يدفع القارئ ليعتبر نفسه جزءا من عملية أكبر منه بل تتجاوز وجوده الفردي والمحدود، ليصبح بفعله القرائي البسيط مُساهما ولو بقدر ضئيل في ماكينة القراءة التي يعتبرها طبيعة إنسانية.

في الأخير، تحضرني مقولة للكاتب والفيلسوف الأمريكي ألبرت جرين هيوبارد يقول فيها "البلد الذي ينفق على شراء العلكة أكثر مما ينفق على الكتب لن يكون أمة متحضرة أبدا" جملة تدفعنا ببساطة وسذاجة تصويرية إلى إعادة ترتيب أولوياتنا كوطن يتوق نحو بناء نفسه وتقوية مكانته بين الدول.