عبدالكريم مباتة يكتب لـ(اليوم الثامن):
العقل العربي أو عندما يتحول العقل إلى معتقل.
إن إنغلاق العقل المسلم داخل دوائره المعرفية يمكن تفسيره وربطه بالعديد من العوامل التي يمكن رؤيتها من الجانب الفلسفي، أهمها هو التمسك بالموروث التاريخي وحصر العقل بكامله داخل الموروث الثقافي والديني باعتباره الكتلة المهمة المشكلة لجسد الثقافة العربية عموما.
هذا العامل إذا تمت دراسته عبر مقاربة تاريخانية يمكن اعتباره بمثابة إطار للفهم والتفسير، حيث يمكن رؤية هذا التشبث بالموروث تعبيرا عن الرغبة في تحقيق الإستقرار والثبات في عالم مستمر في التغير والتحول وبسرعة مخيفة، رغبة في البحث عن الأمان الإجتماعي عبر الإلتزام بمفاهيم والإرتباط بتقاليد والإنحسار داخل وحدات معرفية ثابتة تقدم له شبه استقرار مجتمعي و سراب وحدة أممية أساسها العاطفة.
ولكن من جهة أخرى، يمكن إنصاف العقل العربي بالنظر إلى الأسباب الموضوعية الأخرى وراء هذا الإنغلاق بل الإغلاق ثم طرح أسئلة أخرى، هل هذا الإغلاق نتيجة لتوجس مبرر أو غير مبرر من الآخر المجهول؟ أو هو مجرد فشل مرحلي في التكيف مع التحولات التي تضرب العالم كله وتدفع الإنسان إما إلى تطويع الحتمية التاريخة أو الخضوع لها وفي كلتا الحالتين يعتبر ذلك تكيفا إما سلبيا إو إيجابيا؟ أوربما يكون ذلك مجرد تعنت ورفض للتحديات المفاهيمية الجديدة التي قد تهدد منظومة ما تستفيد من الوضع القائم؟
في عملية استقصاء للتاريخ العربي الإسلامي، نصادف كثيرا من حقب الإغلاق التي مرت على العقل العربي، أخطرها وأهمها على الإطلاق هي حقبة تقييد التأويل أو الإجتهاد الفقهي والإكتفاء بالقائم منه والمتداول، ولا نزال نعيش هذه الحقبة التي تستمر في الضغط على العقل العربي بجميع ما تحمله من ترسبات فكرية ومفاهيمية وبنيوية، أدت إلى قتل الكثير من التيارات الفكرية في مهدها أو رميها على هامش المجتمع.
حقب الطائفية أين شهدت المجتمعات الإسلامية صعود العنصرية الفكرية والتمييز على أساس عقائدي، حيث كان التمسك بالعقائد الخاصة والتحزب لطرائق شعائرية معينة تهم فرعا من فروع الإسلام هو القاعدة، أدت تلك الحقب إلى تحفيز الانغلاق وضرب التنوع وانحسار العقل في ضيق عن الممكن والإمكان داخل آفاق الفهم المختلفة، وأورثت الأجيال من بعدها ضغينة مقدسة فيمغ بينها.
ساهمت المؤسسات الدينية وهيئات العلماء التي قامت عبر التاريخ في ترسيخ اجتهادات ظرفية على أنها نتائج مطلقة ونهائية لا يمكن إعادة النظر فيها، وربما كانت رغبتها تحمل خيرا لكن فعلها كان فيه شر رهَن مستقبل الأمة، فمُنعت بذلك من تحديث فكرها ومواكبة تطورات عصرها، وكان أخطر تلك الحقب يوم أصبح قمع الفكر الفلسفي وكل الرؤى التي تختلف عن الفقه القائم عملا مؤسساتيا، وذلك بتحريم الفلسفة وملاحقة أهل الكلام من علماء وفقهاء ثوريين بحجة حماية الدين.
يجدر بالذكر أن هناك أيضًا فترات في التاريخ الإسلامي شهدت الازدهار الفكري والابتكار، كانت أهمها فترة الدولة الأندلسية حيث استطاعت الدولة المسلمة تحقيق أعلى القيم الدينية وهي التشاركية المجتمعية على أساس القيم لا العقائد.
واجهت الأمة العربية خلال تاريخها تحديات كثيرة، كان أخطرها تلك التي تولدت عن فترات طويلة من الإنغلاق العقائدي والفكري، أورثتها أمراضا إجتماعية لا تزال تنخر في جسدها.
تقييد الاجتهاد مثلا، أورث الأمة رغبة عضوية في تجاهل تحديات العصر وضعفا عجيبا في قدرتها على التكيف الإيجابي مع عصرها، أما الطائفية و العنصرية الفكرية، فقد ساهمتا في تفرق المجتمعات الإسلامية وتشتتها على أساسات عرقية وفكرية. موروث ألقى بظلاله على الفهم المتنوع للإسلام وأعاق التعايش وأدى إلى صراعات لا تكاد تفتر حتى تشتعل من جديد، صراعات وصل بعضها إلى التناحر العسكري. أما تقييد الأفق الفكري وقمع الحريات فقد ساهما بشكل مباشر في الحد من التنوع الفكري والإبداع والتطوير.
يقول جيل دولوز في كتابه "ماهي الفلسفة؟" موضحا كيف يبني العقل لنفسه أدوات هي حدود في حد ذاتها " أقصى ما نطلبه هو أن تنتظم أفكارنا وتترابط وفق حد أدنى من القواعد الحافظة، كالتشابه ، والمجاورة ، والسببية". على هذا المنوال يمكن القول، إذا كان العقل هو مركز لأتخاذ القرارات وبناء المنهج والربط بين الظواهر ومصدرا للمعرفة أيضا، فهو يبني لنفسه أدوات ليبرهن على نتائجه وتلك البراهين تحتاج إلى براهين وكلما تعمق العقل في براهينه توسعت أدواته وتنوعت، حتى تصبح المعرفة الناتجة عنه أسيرة لديه ويبقى هو أسيرا لأدواته، هنا يصبح العقل خطرا على نفسه إذا لم يجعل لنفسه مقاييس يقيس بها عملية التفكير لديه ويعرض نتائجها على النقد والتقييم الذاتي، بالهدم والتفكيك ثم التركيب.
أمراض قد تصيب العقل عندما يتعصب ويغتر بنفسه فيصبح محصورا في إيمانات متصلبة لا تقبل النقد أو الشك أو التساءل، ليغفل بعدها عن التنوع فيفقد قدرته على الإبتكار والتطور، ويدخل في حلقة مفرغة من التفكير الهاجسي والتكرار وطحن المطحون واللعب على اللغة دون خلق مفاهيم جديدة، في هذه المرحلة تتكلس الثقافة ويتحجر الموروث ويتحول التفكير الهاجسي إلى نوع من أنواع الخداع العقلي يريد به محاكاة الإبداع وهو في الحقيقة مجرد تكرار للمكرر في حلقة مفرغة لا تنتهي. ليصبح العقل أسير أدواته ومكانه وعصره وإرادته في إحقاق ما يريده أن يتحقق ضاربا بذلك عرض الحائط أسمى قيم التفكير العلمي وهي التجرد.
من أمثال تلك التمظهرات للتفكير الهاجسي، آلاف من الكتب التي أنتجها العقل المسلم تظهر في أول وهلة على أنها ابتكار، ولكنها مجرد تكرير وتكرار للتكرير، فنجد في موروث الفقه شروحات على الشروحات وهوامش على الهوامش ومختصرات لمختصرات وفي هذا الباب قد تجتمع آلاف الكتب على منوال كتاب.
كل أمة تعاني من إغلاق عقلي نجدها تحيط نفسها بموروثها بشكل يشبه الحاجز، ولكنه ليس حاجزا لمنع الآخر من الدخول، بل هو حاجز لمنع أفراد وعقول الأمة من الخروج وإن خرجوا فلن يعودوا أبدا. هذه الحالة التي تقارب السيكوباتية في التعامل مع تحولات العصر تفرض اليوم على الأمة العربية تحديات وعوائق حضارية لا حصر لها وتفتح أمامها صندوق بندورا من الإحتمالات.
تباطؤ التطور هو أول أعراض الإغلاق العقلي استقر في الأمة العربية، حيث شهد التفكير تباطؤا ثم مواتا تاما، كانت نتائجه كارثية على الأمة، فعندما كانت الأمم تعيد طرح الأسئلة على نفسها كان مجرد التسائل في أمتنا محرم فقهيا وسياسيا، فكم من عقل تم صلبه على الملأ لمجرد أنه قال بما لم يقله من قبله. ثم كان من أكبر نتائج الإغلاق الفكري هو إضعاف الأمة و جلب الإحتلال إلى أراضيها، ولا نزال نعاني هذا الضعف ولا زالت جغرافية الأمة العربية ترزح تحت الإحتلال التقليدي في فلسطين، ونوع من الإحتلال الجديد في باقي أراضيها.
إن تفاقم التشدد العقدي والثقافي سببه المباشر هذا الإغلاق العقلي الذي ضرب الأمة منذ قرون ولا يزال، تظهر أمثلته في تشديد القيود المختلفة على الفعل الثقافي والفني، بدأ بتحريم بعضها وتحديد بعضها الآخر، ثم أصبح خطرا على القيم في المجتمع، كالمسرح مثلا، والذي لم تعرفه الحضارة الإسلامية كسمة عجيبة لها بين باقي الحضارات، ولم يعرفه المسلمون إلا في العصر الحديث، بعد أن حُرّم قرونا ولا يزال المجتمع العربي يرى في الممثلين والموسيقيين والفنانبن أفرادا مطعونون في أهليتهم الدينية والمجتمعية وخارجين عن المألوف. هذه القيود على الفعل الثقافي، ضربت حرية التعبير في مقتل وزادت من حدة التقوقع على النفس والتشدد في الآراء والسلوكيات.
هذا الإغلاق العقلي الذي تعيشه أمتنا منذ قرون، أدى بها إلى تعميق الانقسامات داخل المجتمع، وأورث الأجيال المتعاقبة ضغائن لا تفتر أبدا، فكلما جاء جيل حمل جماجم اجداده ليضرب بها مخالفيه متحججا بكلام نبشه من قبور أمم قد خلت من قبل، ولنا في تاريخنا العربي المعاصر أمثلة لا حصر لها عن التناحر ذو الطابع العقدي.
إغلاق عقلي تعيشه أمتها ضيع عليها فرص التفاعل والتبادل الثقافي مع المجتمعات الأخرى بشكل تستلهمه من عصرها، تمثل في تلك اللغة التي لا تزال تتواصل بها مع الأمم الأخرى، لغة متحجرة تحمل مفاهيم من الماضي لا يمكن لأمم تعيش الحاضر أن تفهمها، لغة لا تفهمها أمم تعيش عصر التكنولوجيا والصناعة والخلق المادي، أمم لا تفهم إلا لغة التكنولوجيا لا يمكنها فهم كلام عن الروحانيات بلغة الشعر والعاطفة، بل هي تنتظر من أمة تدعي حملها للروحانيات أن تجلب ما تريده عن طريق لغة المادة.
قد يتساءل الكثيرون كيف يمكن لأمة الروحانيات أن تتكلم عن دينها بلغة المادة، ما يمنع أمة الروحانيات من السيطرة على لغة المادة ثم نفخ روحها فيها؟ ما يمنع المسلمين من تطوير صناعة الأدوية مثلا ثم جعل تلك الأدوية بحقوق مفتوحة للعالم، كي يتعلم من نتهمهم بالمادية كيف تكون زكاة العلم الحقيقية؟ هنا وجه الحوار الواقعي الذي يمكن أن يجد مساحة له، وإلا فلن يفهم العقل الحديث كيف يكون لرجل الحق في قتل رجل آخر لا يعتقد ما يعتقده هو من غيبيات.
إغلاق عقلي تعيشه أمتنا منذ قرون أثر حتى على نوعية التعليم وطرقه، فلا زلنا نلقن أطفالنا تلقينا، وبدلا من تعليمهم مهارات التعلم، نلقنهم خرافات و أكاذيب متعمدة تقلع من الأسرة لتصل للمساجد والمدارس والكتب، لنصنع منهم قنابل موقوتة جاهزة لتدمير المجتمع، أو دمى تحركها الأيادي القوية لتجعل منهم أداة لغايتها.
رغم هذه الصورة السوداوية بذاتها، لا يمكن أن نشيح بأنظارنا عن إرهاصات التغيير التي بدأت محتشمة في عصرنا، يحمل مشعلها أفراد أخذوا على عاتقهم واجب تحرير العقل العربي من أغلاله، وذلك بإعادة طرح الأسئلة المحرمة ومحاولات لتحليل العقل العربي في بنيوته ومنابعه المنهجية.
هؤلاء الذي وهبوا أنفسهم ليواجهوا آلة القمع التي يغذيها المجتمع العربي عن قناعة ورضا بإغلاق عقله والنظر لكل من طرح سؤالا وجوديا بعيون العداوة والبغضاء تارة أو يجابهم بالتشكيك فيهم وفي نواياهم وتتكرر الإتهامات التاريخية الجاهزة.
إن المجتمع العربي أسير عقله المصاب بحالة من الإغلاق منذ قرون، لن يستطيع إثبات وجوده داخل عصره ما لم يسعى مخلصا إلى النظر بعين عصره إلى أحواله، والتفاعل مع التحولات لعله يفتح آفاقًا جديدة لفهم موروثه وبعثه في حلة جديدة أقوى على مواجهة التحديات التي طرحتها ولا زالت تطرحها الحضارة الغربية، فلا يمكن الكلام عن مواجهة دون حوار، ولا يمكن التحدث عن حوار دون لغة يفهمها الأضداد تمكنهم من طرح أنفسهم للآخر بشكل واضح لا لبس فيه.
لا يمكن أن نتحدث عن بعث حقيقي للعقل العربي المسلم وتطور مستدام، دون البحث عن قنوات جديدة لتعزيز الحوار الفكري والتشجيع على التفاعل مع التنوع الثقافي والإثني داخل الأمة الناطقة بالعربية، لعلها تجد ذلك التوازن بين ما يميزها كأمة روحانية، وبين ما ينقصها من اتصال بعصرها الذي تتهمه بالمادية و القسوة، لتقدم نفسها كما وصفها أهم دستور تحتكم إليه أمة وسطا بين الأمم.
على الأمة العربية اليوم وهي تصف نفسها بالإسلامية احتكاما لموروثها التاريخي، أن تمهد لثورة حقيقية بتحرير عقلها من قيوده وإعادة بناءه بما يتناسب السقف المعرفي لعصرها، لعله يكون طوق النجاة لها من غرق دام قرونا ولا تزال أمواج الحداثة ترمي بها أعمق وأعمق في ظلمات بحر لجي من التخلف والجمود. ولن يكون ذلك إلا بمواجهة نفسها أولا بالإعتراف بمواطن تخلفها وأسبابه ثم العمل عليها.
في الأخير، ليس أمام الأمة العربية غير العمل على فتح فضاءات مجتمعية للحوار والتبادل بين مختلف مكونات مجتمعها الفكرية والإثنية، والإصغاء إلى لغة التنوع فيها وحماية الحريات الفردية والإبداع دون قيود مصلحية ضيقة، هذا الأمر وحده يمكن أن يلعب دورًا مهما في توسيع آفاق العقل العربي، عبر تحفيز مؤسساتي لقيمة التفكير المفتوح، تُمَكن الفرد من استكشاف ما يستجدّ من أفكار ومفاهيم حول ثقافته. إنه نوع من النقد الذاتي ذو الطابع المؤسساتي والذي يمكن جعله جزءا من الفعل الثقافي نفسه، أو نقول بتعبير آخر تحرير العقل العربي من أغلال موروثاته المستهلَكة.