عبد الكريم مباتة يكتب لـ(اليوم الثامن):
الجريدة في الوطن العربي. هل هو احتضار بين فقدين؟
تعد الجرائد واحدة من أقدم وسائل الإعلام في التاريخ، حيث تمثلت في نقاط تحول هامة في رحلة تطور الإعلام والتواصل الإنساني. تأسست الجرائد لتلبية حاجة المجتمعات للمعلومات والأخبار وتوجيه الرأي العام، وفي كثير من الأحيان كانت وسيلته التثقيفية الوحيدة والأكثر حضورا في دينامية المجتمع.
يعود تاريخ الجرائد إلى آلاف السنين، حيث بدأت المحاولات الأولى لنشر الأخبار والمعلومات في شكل منشورات صغيرة في العصور القديمة. ومن بين الأمثلة البارزة على هذه الصحف القديمة، نجد "أكتا ديورنا" التي تعود للإمبراطور الروماني يوليوس قيصر. كانت أكتا ديورنا والمعروفة أيضًا باسم أكتا بوبليكا في روما القديمة نوعًا من الجريدة الحكومية اليومية، وتحتوي على سرد لأخبار المحكمة، ومراسيم الإمبراطور الروماني ومجلس الشيوخ الروماني والقضاء الروماني ، وكذلك إخطارات المواليد والزواج والوفيات. وبهذا تعد فعليا أم الجرائد الحديثة في التاريخ الإنساني.
شهدت الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر نقلة هائلة في صناعة الطباعة، مما أتاح إنتاج الصحف بشكل أسرع وأرخص. وظهرت خلال تلك الفترة صحف رائدة مثل "تايمز" في بريطانيا و"لوفيغارو" في فرنسا، وأصبحت الجرائد وسيلة رئيسية لنشر الأخبار والآراء وتأثير الرأي العام.
شهد القرن التاسع عشر تطورًا كبيرًا في صناعة الجرائد، حيث تزايدت الاهتمامات وتنوّعت الأقسام المختلفة في الصحف، وظهرت هناك حاجة لتقسيم الجرائد والتخصص الصحفي، فكانت بذلك المقالات السياسية والاقتصادية والثقافية والرياضية. كما بدأت الجرائد في نشر قصص التحقيقات الميدانية المتعلقة بالأمن والحياة الإجتماعية وتقارير متخصصة في بعض العلوم كالقانون ونشر أجزاء من إبداعات الأدباء والشعراء وسجالاتهم النقدية، فمست بذلك الجرائد جميع مناحي الحياة فكانت بذلك مرآة للمجتمع وانعكاسا لما يحدث فيه، فأصبحت وسيلة إخبارية تثقيفية موجهة للرأي العام لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها.
شهدت صناعة الإعلام تحولًا هائلاً في العصر الحديث مع تقدم التكنولوجيا، حيث تم تحويل الجرائد التقليدية من صيغتها الورقية إلى صيغة إلكترونية. هذا التطور الهام أحدث تحولًا جذريًا في طريقة توزيع الأخبار والمعلومات وأثر بشكل كبير على قراءة الجرائد والصحافة بشكل عام.
مع تحول الجرائد إلى الصيغة الإلكترونية، أصبح بإمكان القراء الوصول إلى الأخبار والمقالات بسهولة من أي جهاز متصل بالإنترنت. لم يعد القارئ مقيدًا بالحصول على نسخة ورقية من الجريدة، بل يمكنه قراءة الأخبار عبر الهواتف الذكية أو الأجهزة اللوحية والحواسيب الشخصية.
امتازت الجرائد الإلكترونية عن جداتها الورقية بقدرتها على توفير تجربة تفاعلية للقراء، حيث أصبح بإمكانهم التعليق على المقالات ومشاركة آرائهم والتفاعل مع الصحفيين والمؤلفين. كما أصبح للقراء فرصا عديدة وإمكانات لا محدودة للوصول إلى محتوى إضافي متعمق فيما يقرأون وذلك عبر روابط ومقاطع فيديو ومواد تفاعلية، مما عزز التجربة القرائية ووسع الفهم الموضوعي والموضوعاتي وتكوين الرأي الخاص للقارئ. أصبح بإمكان القراء الحصول على الأخبار والتحديثات على الفور، حيث يتم تحديث المحتوى بشكل مستمر وفور وقوع الأحداث. مما سمح للقارى بمتابعة الأخبار العاجلة والأحداث الجارية في الوقت الفعلي، مما يضمن توافر المعلومات الحديثة والمهمة بشكل سريع وفعال.
يعد الجانب الرقمي للجرائد ميزة كبيرة فيما يتعلق بالحفظ والبحث عن المقالات والمواد القديمة. فأصبح في إمكان القارئ الوصول إلى أرشيف الجرائد الإلكترونية واستعراض الأعداد السابقة بكل سهولة، مما يسمح له بالاستفادة من المعلومات التاريخية وإجراء البحوث والدراسات.
تعتبر الجرائد الإلكترونية أداة هامة في التوجيه وتشكيل الرأي العام، حيث يمكن للقراء من خلالها التعبير عن آرائهم ومشاركة الأخبار والمقالات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتشجيع الحوار والنقاش بين القراء والكتّاب، مما يعزز التفاعل الاجتماعي ويساهم في تشكيل الرأي العام بشكل أفضل.
إن تحول الجرائد من الورقية إلى الإلكترونية قد خلق تغييرًا ثوريًا في صناعة الإعلام. وقد أتاحت الجرائد الإلكترونية فرصًا جديدة لنشر المعرفة والأخبار وتوجيه الرأي العام بشكل أسرع وأكثر تفاعلية. إن استفادة الصحافة من التطور التكنولوجي ساعدها على التنوع والظهور في أشكال جديدة من الإعلام الرقمي مثل تطبيقات الأخبار والنشر الإلكتروني. يعد هذا التحول تحدٍ جديد يواجهه صناع الأخبار والصحافة، حيث يتعين عليهم التكيف مع التطور التكنولوجي المستمر وتلبية احتياجات القراء الذين يتطلعون إلى تجربة قراءة مرنة ومتكاملة.
رغم هذه التطورات كلها والفوائد العظيمة لهذا التحول، لا يزال البعض يدافع عن الجرائد الورقية التقليدية خاصة في بعض المجتمعات التي لا تزال تحاول الدخول لعصر المعلوماتية والتكنولوجيا، دفاعا يشبه خبط الغريق في أمواج البحر العاتية، فما زال هناك من يفضلون تجربة القراءة التقليدية باللمس والشعور بالورق، والأمر لا يتعدى أحاسيس النوستالجيا والبحث عن ذكريات الماضي عند الفرد وبقايات تصورات اجتماعية تحتضر، قد تحمل الجرائد الورقية قيمة تاريخية وثقافية وشعورية نفسية، وربما يأمل البعض أن يكون المستقبل للجرائد مزيجًا بين الصيغ الورقية والإلكترونية، ولكن الواقع و استشراف المستقبل يثبت أن المستقبل سيكون بلا ورق، وهذا لأعتبارات كثيرة بيئية ولوجستية وتكنولوجية وصناعية و ثقافية.
يجب أن ندرك أن التطور التكنولوجي لا يمثل نهاية الجرائد، بل هو مجرد تحول في الشكل مع بقاء الجوهر، وهو فرصة لإعادة تشكيلها وتحديثها لتلبية احتياجات القراء الحديثة. تحوّل الجرائد إلى الإلكترونية يعكس تطورًا لا يمكن تجاهله، حيث يوفر فرصًا جديدة للتواصل والتفاعل والتأثير. إنها رحلة استمرت عبر التاريخ، بدأت بجريدة منحوتة على الصخر والفخار، وستظل الجرائد تتطور وتتغير وتتجلى في أشكال مختلفة لتبقى ضياءًا منيرًة لحرية التعبير ونشر المعرفة في عالمنا المتغير.
لكن في انتظار اليوم الذي نرى فيه تحولا تاما من العصر الورقي إلى العصر الإلكتروني، يمكن للدارس المطلع على عالم الجرائد في عالمنا العربي وفي الجزائر خاصة أن يكتشف دون عناء حقيقة أن الجرائد لم تعد لها نفس الفائدة التي كانت تتمتع بها في الماضي، وأن التوعية أصبحت تعاني من تحديات عديدة في أوطاننا العربية. فما هي أسباب ضعف الأثرية للجرائد والتوعية في الوقت الحاضر؟ وهل يمكننا إحياء دورهما المهم في توجيه المجتمع؟
مع تطور التكنولوجيا وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح للأفراد قنوات عديدة للحصول على المعلومات والتعبير عن آرائهم. لم يعد الجمهور يعتمد بشكل حصري على الجرائد لمتابعة الأخبار والمقالات، بل يستخدم الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي للحصول على معلومات فورية ومتنوعة. هذا التحول في العادات الإعلامية أثر على قدرة الجرائد في التوعية والتأثير على الجمهور.
تعاني الجرائد في الكثير من الأحيان من تكرار المحتوى والتركيز على الأخبار التافهة والقصص السطحية بدلاً من تقديم محتوى غني ومتعمق يهم الجمهور. تاركة التحليلات والقراءات في الأخبار متخلية عن مهمة تثقيف القارئ وتزويده بمعلومات نقدية بدل المعلومات الأولية الباردة التي لا تزيد عن سرد الخبر.
بالإضافة إلى ذلك، قد يكون هناك تأثيرات سلبية للرعاية المالية على استقلالية وجودة المحتوى. فمن جهة هناك نظرة استعلائية تجاه القارئ الذي لا يشارك في تقرير المحتوى لانسلاخه عن واقعه النقدي، ولا يساهم في صحة الجريدة المالية، لأنه لا يهتم لشراءها وهذا عيب راجع أولا لطبيعة المجتمع الضعيفة اقتصاديا، فليس هناك اقتصاد حقيقي في هذه المجتمعات يمكن للجرائد أن تكون جزءا منه. ومن جهة أخرى لا يمكن للجرائد مغازلة قارئ تعتبره غير موجود أصلا.
على الرغم من وجود تساؤلات وشكوك حول وظيفية الجرائد في كثير من المجتمعات العربية اليوم، إلا أنه ينبغي أن نفهم أن الجرائد وأهميتها تتأثران بعدة عوامل، بما في ذلك الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لكل بلد. هناك بعض النقاط التي يمكن أن نعتبرها عند مناقشة تأثير الجرائد في المجتمعات العربية كحرية التعبير والتي تعتبر أحد الأساسيات الضرورية لتأثير الجرائد في المجتمع.
في المجتمعات التي تعاني من قيود حرية التعبير والقيود السياسية والقانونية، قد يكون للجرائد صعوبة في التأثير على الرأي العام والقرار السياسي. و حتى بعيدا عن السياسة لا يمكنها حتى الضلوع بمهمة تثقيفية مهما كانت أساسية وبسيطة، كفتح المجال للنقاش الفكري بين المثقفين على صفحاتها، ورفع السجالات بين المبدعين والنقاد إلى مستوى تصبح فيه مادة للتداول بين أفراد المجتمع.
يعتمد تأثير الجرائد بشكل كبير على الاستقلالية المالية والتمويل المستدام. إذا كانت الجرائد متوقفة على دعم مالي من مصادر غير مستقلة أو تعاني من ضعف الإعلانات والاشتراكات، فقد يكون لهذا تأثير سلبي على جودة المحتوى وقدرتها على تأثير الرأي العام، وربما تصبح تلك الجرائد رهينة لقرار من يمولها وخادمة لأجندته.
يشهد قطاع الإعلام تحولًا كبيرًا نحو الوسائط الرقمية والتواصل الاجتماعي. قد يكون لذلك تأثير على تراجع شراء الجرائد الورقية والانتقال إلى الأخبار الإلكترونية. ولكن مع وجود استخدام واسع للإنترنت، يمكن للجرائد الإلكترونية أن تحقق تأثيرًا واسعًا وتصل إلى جمهور أوسع، لأن مجتمعاتنا لا تزال في أول المشوار نحو دخول عصر التطور المعلوماتي ويمكن للجرائد ورقية كانت أو إلكترونية أن تلعب دورا فاعلا في دفع الفرد بقوة نحو دخول عصر المعلوماتية بعقل ناقد وأكثر قدرة على مواجهة تأثيرات عصر المعلوماتية وذلك بتغذية عقله وروحه بثقافة عالية وفكر ملتزم بقضاياه فاهم لقضايا غيره.