عبدالكريم مباتة يكتب لـ(اليوم الثامن):

الجامعة الجزائرية، بين ذكرياتي وأحلامي

الجزائر

وأنا ابن جامعة التسعينات، في زمن مضى ككابوس لم يتبقى منه إلا ذاكرة تحمل رعبا، كنا كطلبة نرى بأعيننا كيف يَذبح الأخ أخاه لمجرد اختلاف عقدي أصله الحرية لا الإجبار، وكيف كانت تُذبح طالبة كالشّاة لمجرد أنها لا تضع قِماشة على رأسها، وكيف تجلى القمع حتى في العقائد والأفكار، فكان الرجل يُهدَّد بالقتل لمجرد إعلانه عن أفكاره، وكيف كان الكُتّاب والمفكرون والفنانون والصحفيون يصارعون آلة الرعب بالكلمة، فمنهم من قُتل في سلسلة اغتيالات العقل الجزائري، ومنهم من اختار الغربة عن الوطن أو في الوطن وما أكثرهم، ومع كل هذه المآسي والأحزان، لم نكن نرى حجم التنطع وضيق الأفق لدى طلبة الجامعات الجزائرية وإطاراتها كما أصبحنا نرى اليوم.

 أتذكر وأنا طالب يوم التمسنا كمجموعة من الطلبة، من عميد جامعة تلمسان آنذاك أن يتفضل علينا باعتماد نادي طلابي أسميناه "نادي الإثنين"، فكان أن رحب بالفكرة عندما عرف هدفها، كُنا نُنظم ندوات فلسفية وفكرية كل أسبوع في معهد البيولوجيا، يَحضرها الطلبة و حتى الأساتذة ، أين كنا نطرح للنقاش والتدبر، قيما فكرية وفلسفية وفنية وأخلاقية، كانت تلك الندوات تأخذ شكل جلسات أدبية تارة، نستمع خلالها إلى طلاب يقرضون الشعر، كانوا شعراء مغمورين، نستمع لقصائدهم بكل محبة وكان أغلبها عن الموت والحياة فقد كانوا يُعبرون عن حالهم وحال وطنهم الجريح، وتارة أخرى تأخذ شكل الصّالون الفلسفي، فنسبح معا في عالم الفلسفة نعرض أفكار فلاسفة و نناقش قيما كالجمال والجمالية، ونفكك مصطلحات كالحرية والمسؤولية، ونتأمل في مفاهيم أخلاقية وإيديولوجية، سبحنا في عالم شوبنهاور، ونيتشه، وسارتر، وقرأنا معا كتب العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم، وتغنينا مع جبران خليل والرصافي، وبكينا مع المنفلوطي وغوته ولامارتين، كنا جميعا نجد لذة المعرفة ونغمة الحرف في مبادلات كانت تنتهي دوما بلحظات من التأمل والأحلام بوطن سيعود ليقف على أرجله ويضمد جراح أبنائه. 

بجانب دروسي ورغم ضيق وقتي، كنت متطوعا في النادي، أعمل منسقا لتلك الندوات التي كان يحضرها الطلبة وبعض الأساتذة، وكنت أجد تجاوبا من الطلبة ووعيا غريبا منهم بحالهم وحال وطنهم، كان حجم الحرية في تلك الندوات عاليا، وأفق المتدخلين واسعا، فقد كنت أحس بقايا وعي ورثناه من تلك الأجيال التي سبقتنا، أجيال الثورة، وما بعد الإستقلال.

كانت تلك الندوات رغم تعب التحضير لها، راحة لأرواحنا ومتعة لعقولنا، كنا نعيش خلالها حريتنا الفعلية، ونمسك بواسطتها بخيوط أقدارنا، كانت هي الفضاء الحر الذي نلجأ إليه للهروب من ظلمات الواقع المر الذي عايشناه برعبه وأحزانه، هناك فقط استطعت استيعاب مفهوم الحرية عند جون بول سارتر حينما جعل الإنسان محكوما عليه بالحرية، وربط بين الحرية والمسؤولية ثم جعل الحرية لا تتبلور إلا في بيئة تقمعها، فكان أن التقى معه الفيلسوف ليفيناس في تعريف الحرية بأنها مقاومة قدرية الوجود، وعملية تفوق البحث عن حرية الفعل، بل هي رحلة لتحرير الحرية من نفسها أيضا.

كانت تلك الندوات فضاء لتحرير عقولنا، وتحرير أنفسنا من رقابة الضمير الجمعي، ومحاولة لتحرير مفاهيمها الأسيرة داخل قوالب العادة والموروث، كانت تلك الندوات مهمة لتحرير الحرية من نفسها أيضا، واعتبار ما يقوم به الإرهابي اختطافا لحرية العقل الجزائري وقمع لها، فكانت عملية قاسية أخذت سنوات بعد تخرجي من الجامعة، لأتخلص من عقدة الذنب تجاه منظومة مفاهيمية ورثناها خلطت مفاهيم الحق والباطل في عقل شبابنا الجمعي.

أما اليوم وبعد عقدين كاملين من خروجنا من ظلمات التسعينات، أصبحت أرى تقهقرا في فكر طلبة الجامعات، ليس تقهقرا معرفيا بالعكس، فهم اليوم أكثر اطلاعا من طلاب الأمس، لأسباب عدة أهمها الإنفتاح المعلوماتي الذي شهده القرن الواحد والعشرون، ولكن التقهقر أصاب الثقافة، فبعد أن كان طالب الأمس يدرس تخصصا ويتابع هواية و منفتحا على ثقافة الغير ، صار اليوم يدرس تخصصا، ويتابع كرة القدم، ومنغلقا في تقاليده، متحجرا في مفاهيمه، حاقدا على الآخر حقدا يحمله مع جماجم أجداده الغابرين، وليته كان كرها مؤسسا على معطيات اليوم ويرنو للمستقبل.

كجزائريين، بعد أن كنا نقاوم بكل شرف لإنهاء الحرب الأهلية، وننتظر بزوغ فجر جديد أكثر استيعابا لمفاهيم الحرية، وبناء وطن العقد الإجتماعي القائم على التنوع وتقبل الآخر و الحوار المستدام والمتطور، ظهر جيل لم يعرف عن تلك الحقبة الحالكة إلا كلمات وحكايات، يحاول تكرير أخطاء من سبقوه دون وعي منه، وذلك بإعادة طرحه للأسئلة نفسها التي ظن الجزائريون أنهم قد أجابوا عنها، أسئلة عن ضمير الآخر وخياراته، أسئلة عن الهوية، وأخرى تجرها الأحقاد التاريخية يرفدها الجهل والتقوقع على الذات، كنت أظن تلك الأسئلة قد اكتملت الإجابة عنها، أسئلة تريد إعادة اشعال المجتمع ورميه في تناقضات وجودية، ربما تدفعه لإعادة المأساة، أما الأدهى والأمَرّ من كل هذا، غياب أو تغييب من يستطيع الإجابة عنها وتوجيهها نحو التساءلات الحقيقية.

لا زلت آمل أن أرى جيلا واسع العقل يتقبل الآخر في إطار وطن المواطنة، جيلا يحمل قدرا كافيا من الوعي والثقافة ليستطيع أن يفرق بين العقيدة وبين الدغمائية، ويميز بين الإيمان والمعرفة، ويوازي بين مجتمع القبيلة ومجتمع العقد الإجتماعي، لا زلت أتمنى وأحلم بشباب يملأ الوطن بشبابه عملا وسعادة، لكنني لا زلت أصارع الرعب من تلك الظلال والأشباح التي تظهر بين الفينة والأخرى، حاملة جماجم ومومياءات التاريخ ليس لدراستها، بل لإلقائها في وجه المستقبل وتنصيبها حاكمة عليه في قيمه وابداعاته واشتياقاته، أراها تعود زاحفة على سطور اللغة بسيميائياتها المخيفة، أراها تعود محمولة على أكتاف شباب يظنها بركة الماضي وهي لعنة على المستقبل، وما يرعبني أكثر هو أن القليلين فقط من يراها ويميزها على لوحة الواقع بألوانها الباهتة.

أفكار، ومفاهيم، ومصطلحات، وقوالب نضالية، وصناديق عقدية، تحمل الجهالة على الحق، مزهوة بضيق أفقها، تظنه ورعا وتصوفا، أو ربما تظنه نضالا وتضحية، يحذوها غضب وحقد على كل ما يرتبط بالحداثة، غضب يحسبه من يحمله غَيرة وهو في الحقيقة ليس إلا رغبة في إقصاء الآخر وإلغائه.

عقول لا تملك حتى القدرة على تنظير ما تحمل من أفكار في إطار أكاديمي حداثي، وإن امتلكت تلك القدرة تسخرها للإشهار لا للدراسة، وللكذب على الآخر بمنهجية مبتدعة، فكيف يسمى الأكاديمي الذي يسخر ألقابه الأكاديمية ليبتدع شيئا يسميه الإعجاز العلمي في القرآن الكريم حتى ظنه العامة من الناس علما حقيقيا مبنيا على منهجية علمية، وكيف يسمى الداعية الذي يسخر الدين و شهرته للدعوة إلى حروب أهلية في أوطان آمنة، وكيف يسمى الباحث الذي يكرس علومه للتفرقة باسم دراسة الأعراق وتاريخ الإثنيات ويخرج أكاذيبه في شكل يشبه المقالات العلمية، وكيف يسمى الرجل الذي يمارس أحقاده باسم الوطنية.

هؤلاء هم زبانية العقل، الذين يمارسون خرافاتهم من داخل بنيويته، ليقدموها على أنها نتاج الحقيقة، هؤلاء هم الخطر الأكبر على شباب هذا المجتمع الذي أعطاهم الشرعية الفكرية ليقودوه نحو خرابه وخراب أمتهه، بدل أن يبحثوا عن المثقف الحقيقي الذي يحمل مصباح الحق حتى لو كان حارقا لينير دروبهم.

أما المصيبة الكبرى، عندما نجد العقل المحسوب على الأكاديمية يسقط في فخ تلك العناكب بسهولة وكأنه عقل تافه لا يرى الحقيقة، عقل لم يعد يميز بين الأكاديمية ومتطلباتها، وبين الواقع وحواجزه، فأصبحنا نرى اليوم شبابا ينتمون إلى جسد الأكاديمية يتبنّون أفكارا اخترعها من هم أجهل منهم، ويمتشقون معرفة أقل ما يقال عنها أنها ليست من العلم ولا هي نتاج منهجية علمية، وكأن الجامعة قد تخلت عن دورها الأساسي وهو زراعة العقول في تربة العلم الخصبة وحماية الحرية، أساس كل إبداع.

لم تعد الجامعة اليوم تقوم بدورها، فبعد أن فقدت اتصالها العضوي بالمجتمع ومكوناته شعبا ومؤسسات، تحولت من صرح أكاديمي يُخَرِّج العقول المُبدعة والأرواح المثقفة، إلى مؤسسة تكوينية مهنية تُنتج مهندسين وتقنيين وفنيين ربما يكونون بارعين في تخصصهم لكن أغلبهم يفتقرون لثقافة الإختلاف والتنوع، فتجدهم غاضبين محبطين، ولا يملكون أفقا واسعا ولا فكرا مؤسسا على قراءات خاصة، فهم أجهل الناس بجغرافية وطنهم الفكرية فلا هم يعرفون في وطنهم مفكريه ولا فلاسفته ولا كُتّابه ولا مثقفيه، ولا يهتمون للمعارك الفكرية الحاصلة فيه، ولا يعلمون وجودا للفنون داخله، شباب يدرس في الجامعة لأجل افتكاك شهادة تشبه الشهادات المهنية، كل هدفه الحصول على وظيفة ما، والأكثر طموحا بينهم يحلم بالهجرة خارجه.

الجامعة اليوم في معاناة حقيقية، فبعد أن كان الحلم هو بناء صرح أكاديمي حقيقي يصنع العقل الجزائري ليجهزه لعصره وصراعاته وتحدياته، هاهي اليوم تنتج من كل تخصص تقنيين إن برعوا في تخصصهم، فهم لا يملكون تلك الثقافة المرجوة التي تمكنه من أخذ نظرة انعكاسية عن نفسه لينتقدها نقدا يحررها أولا ثم يطورها.

الجامعة اليوم جعلت من البحث العلمي بريستيجا وحظوة اجتماعية، وانعزلت في حدودها تاركة العقل الجزائري يواجه أقداره دون مرشد، وبدل أن تفتح أسوارها لكل مبدع وكل منتج في أي مجال علمي وفكري وفني، صارت تنتج هي نفسها من يجرها لتصبح مجرد مؤسسة بيروقراطية.

واليوم مع كل يوم يمضي يزداد المثقف رعبا من أن ترجع عجلة التاريخ إلى البداية لتعيد الكَرّة مع نفس الأفكار ونفس الأفعال ونفس الخلاصات المنتهية، لتفضي بعد ذلك لنفس الأخطاء ونفس المصائب ونفس المآسي.