عبدالكريم مباتة يكتب لـ(اليوم الثامن):

الثقافة وأزماتها العضوية العابرة لحدود الزمكان. الجزائر مثالا

هل يمكننا كمثقفين، التحدث عن المشاكل والتحديات التي تواجه المثقف الجزائري والثقافة الجزائرية دون أن نعتبر ذلك هجوما على الثوابت أو تجاوزا للمقررات؟. هل بإمكان المثقف الجزائري مواجهة نفسه بطرح أزمات الثقافة التي يواجهها والإعتراف بأنه جزء من تلك الأزمات لا جزءا من الحل؟ وهل يستطيع أن يغير موقعه من مراقب أو منتقد  للثقافة إلى فاعل إيجابي فيها مُغيرا قناعاته مطورا من أدواته مجددا في إنتاجاته مقاربا الإبداع فيها لا التكرار أو التكرير؟

الجزائر، وطن يملك تاريخا عريقا وتراثا ثقافيا ضاربا بجذوره في عمق التاريخ، يملأ طيفا واسعا من التنوع اللغوي والفكري والعاداتي مَكّنه من إبداع فسيفساء من التعابير الفنية والفكرية والفلكلورية أيضا. وطن قارة بتنوعه يحمل إمكانات لا محدودة تؤهله ليكون في الصدارة من حيث تعدد أشكال الثقافة وشساعة حقلها. ومع ذلك، هناك مرض يضرب تلك الثقافة يجعلها عاجزة لليوم عن تحرير نفسها من كثير من معوقاتها العضوية أو الدخيلة عليها وكثير من التصورات الإجتماعية الموروثة والمصطنعة تارة في مصنع الإيديولوجيا وتارة أخرى في ورشة الفلكلور. مرض بأسباب متنوعة ومتداخلة أنتج مشاكل وإشكالات لا زالت  تؤثر على التطور الثقافي والفكري وترهن مستقبله لصالح صراعات إيديولوجية وشخصية جعلت من الثقافة وسيلة فقط ونزعت عنها صفة الغاية والهدف.

إن مشاكل الثقافة في الجزائر لا يمكن اعتبارها أو معايرتها خارج أزمات المجتمع وبعيدا عما يعانيه الفرد داخله، فانخفاض المستوى الثقافي للمتعلم والتراجع الفظيع في المقروئية وانعزال العقل الجمعي عن قضاياه الحيوية وعزوفه عن الانخراط في الحركة الثقافية كمستهلك أولا والإلتزام بقضاياه الفكرية كمناقش ومتداول لها ثانيا، جعلت من الفرد جزءا حقيقيا من أزمة الثقافة في الجزائر. عديد من العوامل  أثرت  على عادات القراءة والاهتمامات الثقافية للأفراد مثل التحولات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية، بل وفاقمت المشكلة لتجعلها أزمة مركبة لا يمكن تجزيئها إذا ما أردنا بحث حلول لها.

يعتبر الدعم الحكومي للثقافة في الجزائر غير كافٍ، وهذا باعتراف كل الفاعلين في الميدان، ضعف ربما يفسر أغلبه بقلة الموارد المالية واللوجستية وشساعة الحقل الثقافي، وربما يفسر جزئيا باختيارات صاحب القرار المؤسسة على الأولوية والضرورة الإيديولوجية قد تجعله يفضل دعم نشاط وترك آخر،  مما يؤثر سلبا على الحركة الثقافية والإبداع في البلاد ويعيق نمو الفنون والأدب والسينما والمسرح والمكتبات وغيرها من المجالات والحقول الثقافية.

تواجه الصناعة الثقافية في الجزائر تحديات كبرى في مجال النشر والتوزيع، هذا إذا اعتبرنا كل طباعة لمحتوى وجعله بين دفتين نشرا وتوزيعا، فتكاثر دور الطباعة وانحسار دورها في تصيد كل من يملأ صفحات من الكلام لهدف التربح أولا من كل شخص يظن نفسه كاتبا ثم انتظار ضربة حظ قد تدفع كتابا ما ليحقق مردودية ما، جعلت الكُتّاب والمثقفين الحقيقيين يواجهون صعوبة في نشر أعمالهم وتوزيعها بشكل واسع وهذا لتشبع سوق القراءة بالرداءة من جهة و ضعف المقروئية من جهة أخرى،  مما يجعل من الوصول إلى الجمهور أمرا غاية في الصعوبة وبذلك يضعف تأثيرهم.

تؤثر التحديات الاجتماعية والسياسية على الثقافة الجزائرية بصورة كبيرة. قد تشمل هذه التحديات القوانين التي تحد من حرية الفعل الثقافي أو تحدد مهامه، أما انعدام الحريات الفردية وأهمها حرية التعبير بكل أشكالها سواء لوجود اضطهاد مؤسس ومنظم أو خوف المثقف من تعسف وظلم محتمل، سيدفع حتما أغلبية المثقفين إلى الصمت الكامل أو العدول عن التكلم فيما يعده المجتمع محظورا، والإكتفاء باجترار المتوفر من مواضيع متكررة يغازل بها مجتمعه. لكن ما يؤزم الثقافة أكثر فأكثر فهي طبيعة تعامل العقل الجمعي مع تعقيدات الهوية والتنوع الثقافي في مجتمع متعدد الثقافات مثل الجزائر، فالتعامل بمنظور الأغلبية والأقلية القاصر قد يجعل من مهمة التعبير أمرا يشبه المشي في حقل ألغام.

يواجه الشاب الجزائري والعقل الجمعي، تحديات كبرى في التوفيق بين ثقافته الموروثة وسرعة التطور والابتكار في هذا العالم القرية المتسارع الحركة نحو العولمة أو ما أفضل تسميته بمتلازمة الإشعاع الحضاري. إشعاع تتركز أضراره  في دفع الحلقة الأضعف في كل مجتمع إلى فقدان الروابط مع تراثه وثقافته المحلية. ومن جهة مقابلة تدفع الحلقة الصماء المتكسرة إلى مزيد من الإنغلاق والتقوقع، هذا الفقد من جهة و الإنزواء من جهة أخرى يكون نتيجة لتخلي المثقف الفاعل عن دوره بالمخاطرة في دمقرطة الثقافة والبحث المستمر في نقاط التماس بين الثقافات والتي تكون هي الأكثر دينامية في كل فعل حضاري إنساني.

التسابق الإيديولوجي بين طبقات المثقفين، وتحويل ذلك التسابق إلى مشروع سياسي يرسو إما على مغازلة الأنظمة الحاكمة ومنافقتها أو استعداءها، يجعل من حقل الثقافة ميدان معارك لا معنى لها تدمر الفعل الثقافي وتحوله إلى مجرد خادم بدل أن يكون البيئة التي تنبت فيها الأفكار وتتلاقح فيما يسمى بالمثاقفة. إن الصراع الثقافي داخل مجتمع متنوع لا ينبت شيئا صحيا أبدا، إنما ينتج مثقفا لا يفرق بين الفعل الثقافي المبني على الحرية الشاملة وبين الإلتزام المرتبط بسلطة المجتمع على الفرد، وقد وفق الناقد  محمد أمين سعيدي في كتابه مباهج الحيرة في معرض تسائله  في مقال بعنوان: هل هناك أدب إسلامي؟ في التفريق بين الحرية والإلتزام، قائلا "... الحرية، التي تعني أيضا في أهمِّ وجوهها الفردية، بينما الالتزام يؤكِّد على التعبير عن خيارات الجماعة وأفكارها، أو على الأقلِّ ينصُّ على عدم المساس بما تبنتْه سواء كان صحيحا أو خاطئا...". هذا الخلط بين المفهومين يجعل من الفعل الثقافي صناعة للقمع والإقصاء ويحول تنوع الثقافة الطبيعي إلى صورة مستهجنة وجب محاربتها.

الثقافة عند ميشيل فوكو هي الخالقة لمعاني الواقع، تشاركها في ذلك ألعاب الحقيقة، و هي أيضا ذلك الشكل المميز للحياة الجماعية التي تتجلى فيه قوى العقل والاعتبار والمشاعر والذوق. والمعنى هنا أن الثقافة تنقسم إلى سلوك و إلى أسس تجريدية، وهذا التعريف كاف للنظر للفعل الثقافي من زاوية براغماتية واعتبار الثقافة هي الصورة الواقعية للمجتمع وأي مرض يصيبها مهما كان بسيطا فهو انعكاس لصحة المجتمع، فالثقافة إذا كانت تعاني من أزمات فلا يمكن تجاوز الأمر وتغطية الحقيقة بغربال الديماغوجية، وشخصيا أعرف الثقافة بمجموع المعرفة التجريدية والسلوكية التي يكتسبها الفرد من مجتمعه بصفة آلية لا اختيار له فيها، لتزوده بعد ذلك بتصورات اجتماعية يبني عليها آراءه وأفكاره، يمكن للفرد أن يكون رأيا من خارج ثقافته ويعتبر هذا مثاقفة وهي أصل كل ثقافة ففي الأخير كل الثقافات تلتقي في الأصول الأخلاقية والتجريدية، وما يختلف كثيرا هو السلوك.

المثقف الجزائري اليوم، إما عقل يحاول التأقلم ثم التقدم مع التيار،عارضا نفسه كحام أو بديل، وإما سمكة عنيدة تسبح عكسه، تريد بلوغ منبع كل فكرة أو فعل من داخل ثقافتنا. أما  مهمة المثقف فقد  أصبحت تتلخص اليوم في اتجاهين، إما مثقف ملتزم تارة باتباع السلطة مهما كانت طبيعتها وتارة بمعاداتها إخلاصا منه لإيدولوجية مختلفة عن إيديولوجية السلطة، لكن هناك نوع آخر من المثقفين هم من أسميهم الصعاليك، هدفهم الواحد هو خدمة حريتهم وحرية فعلهم الثقافي لا ينتمون إلا لقضيتهم، لا يهمهم تكريم ولا ربح ولا تربح ويعلمون جيدا أن الثقافة لا يمكن إخضاعها إنما هي كالبحر فهناك من يخوض فيه خوضا وهناك من يبحر فيه محترما أمواجه معالجا رياحه.

 هذه هي بعض أوجه الازمة المركبة التي تواجه المثقف الجزائري والثقافة الجزائرية. ازمة يتطلب حلها النظر في الثقافة كشكل من أشكال التواصل والتعبير الذي يشكل جوهر الحياة الجماعية ويتطلب المشاركة الفردية الفاعلةوالتطور الشخصي والتفهم الجماعي. بل وجب أن نتعامل مع الثقافة كعنصر أساسي للتكوين الاجتماعي والتفاعل البشري، ووجب إبراز أهميتها في  تطوير الفرد والمجتمع، وهذا بتفعيل القوانين التي تحمي الحرية الفردية في كل أشكالها ودفع المواطن المثقف للمساهمة في تكوين الرأي العام، ودعم الثقافة والإبداع وتعزيز الوعي الثقافي في البلاد. 

لكن النظر في هذا وتفعيل الثقافة وجعلها فاعلة في مجتمعها وقابلة للتحلية والتمحيص والتطوير لا يمكن أن يمر إلا من خلال غربال التربية والتعليم والتوعية الثقافية والتي  تلعب دورًا حاسمًا في تغيير التصورات الإجتماعية المتجذرة في مخيال المجتمع وترقيتها وإعطاء العقل الجمعي المستقبلي القدرة التحليلية والنقدية التي تساعده على تكوين رأي وتصور لمجتمعه في عصره ومكانه.