هدى الحسيني تكتب:
الممر الصيني ـ الباكستاني تحت رحمة البلوش!
في 14 من الشهر الجاري لقي 5 أشخاص مصرعهم وأصيب 12 آخرون في تفجير استهدف على ما يبدو السفير الصينى لدى باكستان. وقع الانفجار في ساحة انتظار سيارات فندق سيرينا في كويتا، حيث كان يقيم السفير نونغ رونغ، رغم أنه لم يكن في الموقع وقت الهجوم. يسلط الحادث الضوء على التحديات الأمنية المستمرة الناجمة عن التمرد المستمر منذ عقود في بلوشستان، وكيف تستمر هذه التحديات في تعريض الوعد الاقتصادي للممر الاقتصادي الصيني - الباكستاني ورؤية بكين لمبادرتها العالمية الحزام والطريق للخطر. كما يكشف عن تغيير في التكتيكات من قبل حركة «طالبان الباكستانية»، حيث أصبح الممر الاقتصادي الصيني - الباكستاني داخل مرماها، ويكشف أيضاً عن تزايد الاصطفاف العملياتي بين الجماعات المسلحة التي تتخذ من السند والبلوش مقراً لها.
لم يكن التفجير الأخير شيئاً غير عاديP فقد شهدت المنطقة سلسلة من الهجمات البارزة التي استهدفت المصالح الصينية على مر السنين، ولا سيما غارة نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2018 على القنصلية الصينية في كراتشي وهجوم مايو (أيار) في عام 2019 على فندق بيرل كونتيننتال في مرفأ غوادار. نُسب كلا الهجومين المذكورين إلى جيش تحرير بلوشستان. وكان جيش التحرير البلوشي تأسس في عام 2000، وهو أحدث مظهر من مظاهر الضغط من أجل استقلال البلوش، والذي يعود تاريخه إلى تشكيل باكستان، ولكنه اتخذ بُعداً أكثر عنفاً خلال حملات القمع الحكومية في السبعينات.
مثل المواطنين الأكراد في الشرق الأوسط، ينتشر العرق البلوشي عبر عدة دول قومية: أفغانستان، وإيران، وفي المقام الأول باكستان، حيث يوجد ما يقرب من 70 في المائة من البلوش. للبلوش لغتهم وثقافتهم المميزة، والهدف النهائي لكفاحهم المسلح ضد الدولة الباكستانية تراوح بمرور الوقت من السعي للحصول على قدر أكبر من الاستقلال السياسي لبلوشستان إلى الاستقلال الرسمي.
في الآونة الأخيرة، كان جيش تحرير بلوشستان يستهدف المصالح الصينية في بلوشستان كوسيلة لممارسة الضغط على الحكومة الباكستانية، إذ تعتبر المقاطعة ترساً رئيسياً في شبكات النقل الإقليمية التي يحتاجها الممر الاقتصادي الصيني - الباكستاني، وقد استغلت الجماعات البلوشية المسلحة السخط الشعبي بشأن إعادة التوطين القسري، وعدم وجود عائد تنموي محلي في البناء المرتبط بالممر الاقتصادي الصيني - الباكستاني لكسب التعاطف الشعبي حتى في العمليات الإرهابية.
تعتبر إسلام آباد جيش تحرير بلوشستان جماعة إرهابية. ونظراً إلى الموقع الذي حدث فيه الهجوم واتخاذ السفير الصيني فندقاً هناك كمقر له، فإن للهجوم تأثيراً لافتاً.
اتجه التفكير في البداية وبشكل تلقائي إلى أن جيش تحرير بلوشستان كان وراء الهجوم، لكن تبنت جماعة «طالبان باكستان» الهجوم، وهذا في حد ذاته تطور ملحوظ، إذ يشير أولاً إلى عودة جماعة إرهابية إلى الصدارة، وكان تم تهميشها إلى حد كبير في أعقاب حملة كاسحة عام 2014 شنتها قوات الأمن الباكستانية في شمال وزيرستان. وثانياً، رغم أن أياً من تصريحات حركة «طالبان باكستان» لا تشير صراحة إلى أن السفير الصيني كان المستهدف، فإن الهجوم يحقق نفس تأثير عمليات جيش تحرير بلوشستان، أي أنه يستهدف نقطة ضعف رئيسية في إسلام آباد، وهي علاقتها مع الصين، والتي يمكن القول إنها العلاقة الثنائية الأكثر أهمية للدولة الباكستانية. أيضا كان الهجوم خارج نطاق مسرح عمليات «طالبان باكستان» الذي يشنون فيه عملياتهم الإرهابية، مما يعني أمرين؛ إما وجود تعاون جديد بين المجموعتين واعتراف عملي بالمسار الجديد الذي صار يعتمده جيش تحرير بلوشستان، وإما تمدد «طالبان باكستان» إلى منطقة جديدة.
سواء تم استهداف السفير عن قصد أم لا، فإن هجوم كويتا يسلط الضوء على نقاط الضعف المستمرة في شبكات النقل. يمكن العثور على مثال حديث في هجوم أكتوبر (تشرين الأول) 2020 على قافلة من المركبات تقل موظفين من شركة «تنمية النفط والغاز المحدودة» المملوكة للدولة، والتي تنتقل من غوادار إلى كراتشي. فقد قتل في الكمين 14 عنصراً من الحراس المسلحين - سبعة من قوات الأمن الخاصة وسبعة من قوات حرس الحدود شبه العسكرية الخاضعة لسلطة وزارة الداخلية. إذا نجحت مثل هذه الهجمات في استهداف قافلة فيها 14 حارساً مسلحاً، فإن أي بضائع تنتقل من المنطقة أو إليها تكون في خطر.
إن الإرهاب في بلوشستان هو الشغل الشاغل للسلطات الصينية، وهو الذي يمكن أن يؤثر على فرص التمويل المستقبلية المتعلقة بالممر الاقتصادي الصيني - الباكستاني لإسلام آباد. في عام 2018 تم الكشف عن أن السلطات الصينية انخرطت في محادثات مباشرة مع الجماعات البلوشية المسلحة لأكثر من خمس سنوات، في محاولة للتوصل إلى ضمانات أمنية لمشاريع الممر الاقتصادي الصيني - الباكستاني. ومع ذلك، فإن هذه المحادثات لم تؤت ثمارها بعد، وبالنظر إلى أهداف اللعبة المتناقضة للقوميين البلوش المطالبين بالاستقلال، وشريك الصين في إسلام آباد، فمن غير المرجح أن يتم ذلك في المستقبل القريب.
في هذا السياق، تمّكن الجيش الباكستاني من تعظيم نفوذه على مصير - وأموال - الممر الاقتصادي الباكستاني. ففي وقت مبكر من هذا العام، أقرت حكومة عمران خان رئيس الوزراء سلسلة من القوانين الجديدة لإنشاء سلطة الممر الاقتصادي الصيني - الباكستاني: جهاز تخطيط وإداري موازٍ لمشاريع الممر، مع سلطة تشرف على كيفية إنفاق الأموال. ويُعتقد أن الصين تدعم تشكيل سلطة الممر الاقتصادي الباكستاني على أساس أنها ستزيد من مشاركة قوات الأمن الباكستانية. وقد تم نشر حوالي 15000 جندي في البداية لحماية مشاريع الممر في عام 2017، وقد زاد هذا العدد مع السنوات.
من المؤكد أننا الآن ندخل مرحلة جديدة في دورة تطوير الممر الاقتصادي: رئيس الوزراء خان، الذي كان متشككاً ذات مرة في شروط تمويل الممر، أصبح مأخوذاً ومتمسكاً به في دولة تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، ثم إن الجيش هو المسيطر ويقوم بقمع القوميين البلوش بشدة داخل باكستان ويطاردهم.
الخطر أن المسرح مهيأ لزيادة التدابير القسرية التي تستهدف الجماعات المسلحة والسكان المضطربين في بلوشستان الذين يرون أن الصين تستغل ثروات منطقتهم بمساعدة الدولة المركزية، ومع ذلك فقد أظهر التاريخ في كثير من الأحيان أن مثل هذه الأساليب يمكن أن تؤدي إلى نتائج عكسية لتحقيق استقرار طويل الأمد؛ لأن لا باكستان ولا غيرها من الدول تستطيع البناء على حقوق أعراق مختلفة عن المكون الرئيسي للشعب. ثم إن الصين التي تستطيع أن تقمع الأقليات لديها، لن يكون دورها الكسب على حساب أقليات دول أخرى. ومع اقتراب انسحاب الأميركيين من أفغانستان سنرى «تحالفات» كثيرة لمنظمات إرهابية، فأغلبية الدول المحيطة بأفغانستان تعاني من أنظمة ديكتاتورية تشجع على بروز مجموعات إرهابية، تريد أن تكون البديل في السلطة ولن تكون أفضل ممن سبقها، لأنها ما اعتادت هي الأخرى على حق الشعوب، خصوصاً الأقليات. بقي أن نعرف الطريق الذي ستسلكه الصين التي لا تستثمر كي تخسر!