د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):

حديث الذكريات (24).. ليل عدن

ليل عدن له نكهة خاصة في تلك الأيام .. الباصات ليست مزدحمة.. الركاب جالسون في مقاعدهم والكمساري ينبهنا بصوته وهو يتجول في الممر بين مقاعد الركاب لقطع التذاكر واستلام ثمنها ..ونفتح الشبابيك وتهب علينا نسمات البحر اللطيفة ونحن نخرج من عدن.. وندخل خور مكسر وما أجمل الليل فيها .. ويمر بنا الباص في ليلها الهادئ الجميل وسط الفيلات الجميلة الحالمة .. وأضوائها الهادئة الوادعة.. وداعة وسكون أهلها.. والمصابيح  تظهر أنوارها على استحياء من نوافذها الزجاجية  وستائرها الملونة  الوردية  والصفراء والحمراء تبدو كقوس قزح  والهواء يداعب أشجارها في الشوارع المضاءة ..مع نسمات  الليل الساحرة  و الباص يسير على شارع خور مكسر الرئيسي  الذي   يتعرج   وسط تلك الأبنية  الجميلة و نمر  بتلك المشاهد وكأننا في حلم جميل.. حيث تنقطع تلك المشاهد الرومانسية بعد خروجنا من خور مكسر.. ونحن نقترب من سور معسكر" شامبيون لاين" أو معسكر النصر ثم ننزل في المحطة المقابلة لبوابته.
كانت عدن مدينة الحب والسلام ومأوى وملجأ لكل البشر من كل الأجناس  : اليهود والبهرة والهندوس والفرس والصومال والإنجليز ومن بعض الدول الأوربية  ولا فرق بينهم وبين السكان الأصليين من أبناء عدن التي لجأ إليها بعد الاستقلال  بعض الأخوة   العراقيين هربا من نظام صدام حسين  وعملوا في حقل التدريس ومنهم الأستاذة بلقيس الربيعي وزوجها التي كتبت مقالا عن عدن تقول فيه  :
 (عدن .. حبيبتي)  
((عشقتُ عدن واليمن الجنوبي موطني الثاني ارضاً وشعباً ، وعدن بادلتني ذات المشاعر عشتُ أحلى سنوات عمري في عدن ، الوطن الذي لم يبخل عليً بشيء ، بل أعطاني كل شيء .
هذه الأيام يعتصر قلبي من الألم حين اشاهد ما يجري فيك يا عروسة البحر وساحرة الالباب ، الغافية بهدوء على سواحل البحر العربي ، عدن كنتِ المدينة الآمنة التي لا يُطلق فيها الرصاص على البشر كما يُطلق على الأرانب ، عدن يا وطني بالاختيار منحتيني الأمان الذي افتقدته في وطني ، أحبك زوجي الدكتور ابو ظفر ، ودائماً كان يقول لي ( افضل مكان لكم في هذه الدنيا هو عدن وليس غير عدن ، انكِ تعيشين في بلد الأمان والرعاية التي يفتقدها الانسان حتى في وطنه .
عشقتك يا عدن وحفظت كل شوارعك وحاراتكِ ، في خور مكسر والمنصورة والشيخ عثمان ودار سعد حيث ثانوية الشهيد عبود التي كنت أعمل فيها وصهاريج الطويلة وقلعة صيرة و..و....إلخ
أدمنت فيك رائحة البحر والبخور والفل والمشموم والكاذي ، أحن اليك اليوم كحنيني لسماوتي الحبيبة ، فيك وجدتُ نفسي ولم أشعر بالغربة كلما اشاهد الغربان الصغيرة والنوارس ، اتذكرك يا حبيبتي ، وكلما اشم رائحة الكزبرة تسميها العدنيات "كبزرة"  ، أسرح في اجواء سوق الشيخ عثمان.
في احدى رسائله في يناير 1979م كتب لي ابو ظفر قائلا :
" أنا منذ مدة ليست ببعيدة في عدن ، حيث الجو ربيعي ولكنه رطب ، عدن مدينة صغيرة قياساً الى بغداد ، ولكنها بسيطة وجميلة ونظيفة وأهلها طيبون ( الوزرة ) لباسهم الشعبي ، السفور ظاهرة عامة بين نسائهم وحتى المحجبات يتصرفن بحرية اكبر بالنسبة للمحجبات في بلدنا .
عدن مدينة هادئة لقلة مرور السيارات في شوارعها ، تكثر فيها الغربان الصغيرة بدل الحمام ، في عتق وعدن تستوقفني ذكرياتي مع الغالي ابو ظفر رغم قصرها.
عدن يا من كنت ملاذي الآمن بعد هروبي من قبضة الجلادين ، أحببتكِ وبكيتُ لفراقكِ رحلتُ عنك مرغمة أثر الحرب الغاشمة عام 1994م ، تبقين أنتِ بعيوني الحبيبة ، أنتِ للإنسان طيبة ، أنتِ في قلبي الوطن يا حبيبة يا عدن.
هكذا غنى لك جعفر حسن.
وقال عنك الروائي صبري هاشم في روايته قبيلة الوهم :
العدنيون طيبون بحياتهم ، قانعون بجحيم شموسهم ، سابحون وببحارهم فرحون ، أخلاقهم لا تناسب قسوة صخورهم ، ولا حرارة شموسهم ، ولا هياج رمالهم ، العدنيون فنارات ترشد كل سفينة.
عدن التي سخت عليّ بخيرها ما زلت احمل في ثنايا روحي حبي لها ولأهلها الطيبين.)) -انتهى -
أماكن كنا نرتادها في عدن:
المطاعم:
كنا نرتاد مطاعم معروفة في عدن آنذاك ومنها: مطعم البحر الأحمر في كريتر إلى الغرب من سينما "هريكن" وكان يقدم الوجبات العصرية غير الشعبية، ويمتاز بالنظافة والهدؤ..!
أما في الشيخ عثمان فقد كنا نرتاد "مطعم دي لوكس" وهو من أرقى المطاعم وأغلاها ويقدم الدجاج والبطاطس والكاتشب والخبز الإفرنجي وهو شبيه بكنتاكي هذه الأيام.
أما المطاعم الشعبية فقد كنا نتناول بعض وجبات الغداء والعشاء ومنها المخابيز التي تنتشر في محيط مسجد النور بالشيخ عثمان .. وفيها مأكولات لذيذة جدا خاصة وجبة الغداء حيث تقدم السمك المشوي في التنور مع فتة بالسمن أو التمر.. أو الرز واللحم والمرق وتسمى "مخبازة" وأكلها جيد جدا، ولكن يعيبها شيئين:
الأول: الزحمة والإزعاج والمناداة بأصوات مرتفعة.
الثاني: عدم توفر النظافة العامة في المخبازة بصورة عامه في الأثاث والمطبخ والعاملين كما تنتشر داخلها القطط تلتمس الطعام من الزبائن من تحت  الطاولات 
ولكن جودة الطعام تجعلنا نغض الطرف  عن تلك العيوب  وهناك بعض المحلات الراقية أمام سوق السمك بالشيخ عثمان ومنها محل لا يحضرني اسمه، كان يقدم فقط شراب الثريب البارد – وعادة ما نذهب إليه عصرا..!!
ويصف  الكاتب العدني بلال غلام حسين بعض المطاعم فيقول :
"مطعم الطاووس" كان محله في الزعفران ويملكه العدني العريق العم صالح حاجب يرحمه الله، الذي سكن في حافة القاضي وكان من أعيان الحافة، أشتهر المطعم بتقديم "الزُربيان" بصفة خاصة وبقية الأكل بصفة عامة مميزة، كانت له شهرة عظيمة في عدن، والقليل منا يعرف سر مطعم الطاووس، كان الطعام لا يطبخ في المطعم وخاصة الزُربيان المشهور, كان الطعام يُطبخ في بيت صالح حاجب بطريقة خاصة لهذا كان الطعام مميزا .
أيضا في الزعفران "مطعم جُمعان" الحضرمي، كان مطعم جُمعان يبيع "الصياديه"، ويفتح في الظٌهر فقط لوجبة الغذاء، وحتى السعر محدد ودائم .. شلن ونصف، صحن صياديه .. وصله صيد و رز – واحد قلص "بان هيس" ماء بارد. كان العم جُمعان رجل شديد التدين فهو يصلي الفجر ويذهب إلى سوق الصيد – أي السمك باكرا ويشتري أحسن الصيد للمطعم، كانوا رجال أتقياء يحبون مهنتهم ويخلصون لها..
ويأتي المطعم الثالث، "مطعم صالحو" يملكه الرجل الصومالي العريق صالحو، ولا أحد يعرف متى جاء هذا الرجل إلى عدن، كان المطعم في مدخل حافة الشريف وأمام منزل فنان عدن التاريخي – الفنان أحمد قاسم، كان مطعم متخصص ظهرآ فقط - مرق مع لحم الغنم الصومالي اللذيذ، نصف حبه ليم، قرص روتي أبو صندوق، قلص ماء .. ب 2 شلن سعر محدد، وفي المساء مرق و كراعين، نصف حبه ليم، قرص روتي أبو صندق، قلص ماء بارد – السعر شلن ونصف، ولا يوجد أي نوع آخر من الطعام نوع مميز ومحدد (والكلام للكاتب العدني بلال غلام )
أما أشهر مطاعم الفول هو محل علي احمد في الشيخ عثمان حيث يقدم أشهى وجبات الفول خاصة في المساء وتوضع الطاولات في المساء أمام المطعم في الساحة المقابلة له ، وما إن يجلس الزبون حتى تقدم له فتيات صغيرات أقراص الخمير الشهية  الساخنة المخبوزة في البيوت وبأسعار مناسبة جدا ، وقد شاهدت ذات ليلة ومعي أحد الأصدقاء بحضور الرئيس سالم ربيع علي ومعه صديق له يتناولان العشاء ويجلسان  على بعد أمتار قليلة منا !!
د. علوي عمر بن فريد