مختار الدبابي يكتب:

تونس بين كماشتي صراع الرؤوس وصندوق النقد

في الأيام القليلة التي سبقت عيد الفطر نشط الحديث عن الحوار مجددا على أمل تطويق مخلفات الأزمة السياسية الحادة بين رؤوس الدولة الثلاثة (رئاسة الجمهورية، والبرلمان، والحكومة)، وهي دعوات ضرورية لطمأنة دوائر خارجية مختلفة، بينها جهات مانحة باتت تنظر إلى تجربة الانتقالي الديمقراطي التي تعيشها البلاد منذ عشر سنوات بعين الريبة خوفا من أن تجر البلاد لتكون دولة فاشلة خاصة بعد تحول الصراع السياسي إلى عامل تقسيم، وهو ما ظهر بشكل جلي في التحريض على إفشال قرار حكومي بفرض حجر صحي كامل لتطويق انتشار الوباء.

وتحمل المؤشرات المختلفة على الاعتقاد بأن الصراع السياسي في تونس لن يقف تأثيره عند حدوده المباشرة، أي حدود لعبة تسجيل النقاط بين الخصوم، وهي لعبة مفتوحة بسبب الثغرات التي تركها دستور 2014. الأمر الأخطر أنه بدأ يقود إلى حالة انقسام حادة داخل مؤسسات الدولة وداخل المجتمع، وصرنا نستمع إلى خطاب سياسي يحرص على تقسيم البلاد إلى خارطتين، تارة باسم المناطقية (الجهويات)، وأخرى على قاعدة الهوية: العلمانية المدنية أو الإسلامية المحافظة.

وقال الرئيس قيس سعيد في كلمة له أمام عناصر عسكرية وأمنية إن “الخطر الحقيقي (في تونس) هو تقسيم الدولة من الداخل”، وهو تحذير لا يمكن النظر إليه كتخويف أو من باب تسجيل النقاط على الخصوم والضغط عليهم. فقد أثبتت الأيام الأخيرة وجود انقسام واضح بين فريقين؛ فريق أول يحيط بالحكومة ويقف في حالة ارتباك، وفريق ثان يقف ضد الحكومة ويعمل على الاستهانة بقراراتها ويحرّض على رفع عصا العصيان في وجهها بدءا من رفض قرار الحجر الصحي وجرّ فئات اجتماعية ومهنية مختلفة على خرقه بشكل منظم بالرغم مما في الخطوة من مخاطر صحية في بلد عاجز عن توفير اللقاحات بالحد المطلوب.

لكن الأخطر في هذا التحريض هو الدعوة إلى مواجهة أيّ التزام تقطعه الحكومة في اتفاق متوقع مع صندوق النقد الدولي، وهذا هو لب الأزمة، فالاتفاق مع الصندوق ليس خيارا سياسيا ظرفا يمكن لأيّ كان أن يعمل على إسقاطه أو عرقلته، كما أن الصندوق لن يقبل أن يدفع قرضا بالحجم الذي تطلبه حكومة المشيشي (4 مليارات دولار) دون توافق واسع عليه بين مختلف الفرقاء السياسيين والاجتماعيين.

ويبدو أن هذه هي النقطة التي دفعت إلى تلطيف الأجواء بين الرؤوس الثلاثة، حيث بدا قيس سعيد في كلمته بمناسبة عيد الفطر أكثر هدوءا وتجنبا لإشاراته المعتادة في توظيف المناسبات الدينية والرسمية للهجوم على خصومه. هذه المرة اكتفى برسالة طمأنه لخصومه وللشارع وللدوائر الأجنبية، وخاصة الصناديق المالية الدولية التي صارت تهتم أكثر بما يجري لتقرر تمويل برنامج إصلاحات حكومية قاسية أو ترك البلاد لمصيرها.

وقال سعيد في كلمة مقتضبة لتهنئة التونسيين بالعيد “ليست هناك نيّة في إلقاء خطاب سياسي في مثل هذه المناسبة.. ليلة العيد”.

وسبقت التهدئة في كلمة سعيد، تهدئة من حركة النهضة على لسان أكثر من قيادي فيها بدءا من الغنوشي الذي قام بتهنئة سعيد بالعيد ومثله فعل المشيشي في مسعى للحفاظ على خيط الود بين الرؤساء الثلاثة.

وكان من أبرز من قاد الدعوة إلى الحوار القيادي بحركة النهضة عبداللطيف المكي الذي قال إنه ليس واردا في برنامج الحركة سحب الثقة من رئيس الجمهورية فضلا عن البحث في شروطها، وذلك بعد ما راج من تسريبات عن تحرك من الحزام البرلماني للحكومة لتقديم عريضة لسحب الثقة من الرئيس بـ145 نائبا، وهو أمر بات ممكنا بعد تمرير القانون الجديد للمحكمة الدستورية (142 نائبا).

وأضاف المكي أن الموقف الرسمي لحركة النهضة هو الحوار مع رئيس الجمهورية والبناء معه لتجاوز الأزمة الحالية رغم الاختلافات العديدة مع مواقف الرئاسة في العديد من الملفات وآخرها موضوع المحكمة الدستورية.

وتقول أوساط تونسية إن هناك ضغوطا خارجية على الرؤوس الثلاثة من أجل التهدئة وتبريد الخلافات الشخصية والحزبية لمساعدة البلاد على الخروج من أزمتها. وربطت تصريحات قيادات النهضة عن التهدئة بزيارة الغنوشي إلى قطر، والتي كان يبحث من خلالها عن فهم وضع النهضة لدى حلفائها بعد التقارب التركي – المصري، وأنه قد يكون قوبل بموقف واضح هناك: حلوا خلافاتكم مع سعيد داخل تونس.

في المقابل ربطت تلك الأوساط تهدئة سعيد بالاتصال الذي أجرته معه نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس وورود رواية متناقضة للمكالمة بين رواية صفحة رئاسة الجمهورية على فيسبوك التي قالت إن المكالمة تطرقت إلى “الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية… (و) ضرورة مقاومة الفساد كركيزة لبناء دولة القانون والديمقراطية”، والرواية الأميركية للمكالمة التي جاء فيها أن هاريس شددت على التزام بلادها المستمر “بدعم الديمقراطية في تونس”، بما تحمله من إشارات إلى ضرورة الحفاظ على المؤسسات الديمقراطية بصورتها القائمة، بما فيها مؤسسة البرلمان.

لكن الأهم في الرواية الأميركية هو تأكيد هاريس “على التزام تونس بالإصلاحات الاقتصادية (…) ودعمها لمفاوضات تونس مع صندوق النقد الدولي وتنفيذ هذه الإجراءات في الوقت المناسب”، أي أن على جميع المؤسسات في تونس بما في ذلك رئاسة الجمهورية أن تقف وراء الاتفاق المنتظر مع الصندوق وعدم تحويله إلى نقطة صراع ومزايدة بين الخصوم.

ويبدو أن الالتزام بشأن الإصلاحات الاقتصادية سيكون محور تهدئة وحوار في الأيام القادمة، وأن الضغط الخارجي قد يقود إلى إحياء مبادرة الحوار الوطني التي سبق أن أطلقها اتحاد الشغل ولم تلق حماسا خاصة من مؤسسة رئاسة الجمهورية. وبالتوازي مع ذلك ربما يتم رفع سقف الشروط للمشاركة في الحوار من مثل إقالة حكومة المشيشي وتشكيل حكومة لتنفيذ هذه الإصلاحات.

لكن المؤشرات تقول إن هناك دفعا لبقاء هذه الحكومة وأن تتولى تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه مستقبلا من إصلاحات، خاصة أن تشكيل حكومة جديدة قد يأخذ وقتا طويلا بسبب المناكفات والشروط المسبقة والمحاصصة في توزيع الحقائب، فضلا عن مناورات تتعلق بمن يتولى تعيين رئيس الحكومة أهو البرلمان أم رئيس الجمهورية؟ وهل يستقيل المشيشي أم يقيله البرلمان ضمن لعبة الفخاخ الدستورية التي تغرق فيها البلاد منذ مدة.

يبدو أن الالتزام بشأن الإصلاحات الاقتصادية سيكون محور تهدئة وحوار في الأيام القادمة، وأن الضغط الخارجي قد يقود إلى إحياء مبادرة الحوار الوطني التي سبق أن أطلقها اتحاد الشغل ولم تلق حماسا

ولا يعتقد أن رئيس الجمهورية سيتشبث هذه المرة باستقالة المشيشي بالرغم مما نقل عنه أمين حركة الشعب، التي تحول قياديوها إلى ناطقين باسم قيس سعيد في غياب ناطق رسمي باسم الرئاسة، من اشتراط استقالة المشيشي وعودة حق التكليف لرئيس الجمهورية وكذلك حق اختيار الوزراء.

لكن الحلقة الأكثر صعوبة في الحوار بشأن الالتزام الشامل بإصلاحات تستجيب لشروط الإقراض التي يقدمها صندوق النقد الدولي ستكون حلقة الاتحاد العام التونسي للشغل. هناك شقان في هذه المنظمة، شق براغماتي يقوده الأمين العام نورالدين الطبوبي الذي سبق له أن بدأ حوارا موازيا مع الحكومة بعد تعطل الحوار الوطني تحت رعاية رئيس الجمهورية. وتوصل الطبوبي لاتفاق مبادئ مع المشيشي بشأن إصلاحات المؤسسات العمومية التي هي في أغلبها تعيش حالة واسعة من الفساد وغياب الحوكمة.

وهناك شق ثان أقليّ يمثله تحالف يساري قومي أرسل بإشارات تقول إنه يرفض أي التزام مع صندوق النقد محذرا من ثورة في الشارع على هذا الخيار. وقال سامي الطاهري، الناطق الرسمي باسم الاتحاد إن “التمرّد على قرارات الحكومة في الحجر هو تمرين للتمرّد على صفقتها المنتظرة مع صندوق النقد الدولي”.

وللحقيقة، فإن الوضع صعب ومعقد ومن الصعب على منظمة، مثل اتحاد الشغل، دأبت على استثمار الغضب الشعبي لفائدة أجندتها أن تكون جزءا من التزام وطني واسع لتنفيذ إصلاحات قاسية لكنها مصيرية لإنقاذ الاقتصاد من مخلفات لعبة الاستنقاص من الدولة ومؤسساتها وإجبارها على تقديم التنازلات وإغراق الموازنة بالزيادات المستمرة في الرواتب والعلاوات.

هذه المرة، يضع صندوق النقد الدولي مختلف الفرقاء السياسيين والاجتماعيين في الزاوية إما الالتزام الواضح بتجميد الزيادة في الرواتب ووقف المطالبات والمزايدات النقابية، والقبول برفع الدعم، وخطة لتقشف قاس، أو ترك البلاد للمجهول خاصة في ظل غياب أيّ بدائل اقتراض لديها.

وستكون هذه الحقيقة الصعبة بمثابة تحد للخطاب الشعبوي الذي يصدر من اتجاهات مختلفة ويدفع إلى خلط الأوراق دون حساب تماسك الدولة والتزاماتها الخارجية.