د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):

حديث الذكريات (34).. "رسالة شهيد إلى عدن الحبيبة"

لم تكن الغربة خياري عندما هاجرت مجبراً ذات ليلة سوداء مظلمة شديدة البرودة وأنا أتلمس طريقي في جنح الظلام بسبب الانتفاضات وأعمال البطش والانتقام والمسيرات التي كانت تجوب شوارع عدن الجميلة ومعظم مدن الجنوب من الحاقدين والدهماء من أتباع النظام الماركسي في السبعينات من القرن الماضي !! سرت حافي القدمين بعد أن تمزق حذائي.. ثم أخفاني سائق شاحنة كبيرة تحت أكوام حزم القصب حتى عبرت الحدود إلى اليمن!! كنت يافعا لا يقوى على فراقك يا عدن ..وتنقلت حتى وصلت مكة المكرمة.. وكانت خياري وقبلتي وألقيت فيها رحالي وبدأت اشق فيها طريقي . ورغم رحيل الجسد الغض الصغير وابتعاده عنك فقد بقيت الروح معلقه في عناقيد الفل والياسمين التي  تتسلل روائحها الزكية  مع غروب شمسك وتذوب في صفائح الكادي ورائحة البخور التي تتضوع في أزقتك وشوارعك كل مساء يا عدن!! خرجت والخوف يسكن وجداني عندما بدأت الثعابين والعناكب تخرج من أوكارها تلدغ كل جمالياتك وتنشر الموت في ربوعك في السبعينيات .. خرجت منك وفارقتك مكرها ، وظننت أنني سألتصق بالغربة في المكان الجديد وشربت العلقم بعيدا عنك وسط أحلامي المجهضة التي مهما ادعيت انصهاري في بلاد الغربة إلا أن الجسد والروح كانا ملكاً لك ولثراك وحدك !! ..وفي كل مساء تتسلل الذكريات إلى شراييني ويطل الحنين إليك من أوردة القلب المكلوم بفراقك وتتسلقين ذاكرتي كطفلة تعبث بأوراقي وتسافر في دمي ورغم السنين والفراق عنك إلا إنني أتلمس في ذاكرتي شرفاتك وأتنفس هواك ويتسلل ضوء مصابيحك إلى حدقات عيوني .. ويتصفح النور  وجهي كل ما أشرقت شمسك أو غابت عليك..!!
احن إلى ملامحك وبناياتك وتضاريس جبل شمسان وصخور العقبة في شارع أروى ومكتبة الجيل الجديد والصهاريج وأمواج البحر التي تتكسر على شواطئك في ساحل أبين وجولد مور ..!! ويرحل الضوء معي ويطل من نوافذ بيوتك الجميلة في خور مكسر ويتسلل إلى عيوني وخلايا ذاكرتي ويواسيني في وحدتي !! وتتساقط الدموع على وجهي وتلسعني حرارتها حتى ترتعش أهدابي كلما تذكرتك .!! . لم أدمن مدينة يوما مثل ما أدمنتك ، وأنا أتنقل في مدن الشرق والغرب وأعبر المطارات وبقيت وحدك تسكنين وجداني وتحلقين معي كحمامة بيضاء استحضر معها روائح البخور من شرفاتك  وأشم طعامك المميز وفناجين الشاي العدني تتسلل رائحته إلى انفي ..وطعمه إلى فمي وأحلم أنني جالس في زاوية داخل   قهوة زكو كما كنت أجلس أيام عزك يا عدن  في سالف الأيام ،ولا زالت ملتصقة ذكرياتها في ذاكرتي وأفيق من حلمي  ضحكات  وضحكات  أطفالك ترن في أذني  رغم المسافات البعيدة  التي اختزلها شوقي إليك !!
يا عدن يا مدينة الأحلام.. ستظلين مسقط قلبي وخلايا وجداني والقي وضيائي وعندما تكالب عليك الطغاة والبغاة والغزاة إبان العهد الماركسي ..وما أعقبها من غزوات متلاحقة واجتياحات مدمرة عفاشية – حوثية في أعوام 1994م - 2015م عندما انحدر الغزاة من الكهوف والجبال من شمال الشمال ..ضاقت بنا الدنيا في الغربة عندما سمعنا أن الغزاة يدكون عدن بالمدافع وأهلها يموتون تحت الأنقاض.. حتى  نادى فينا المنادي : هبوا يا شباب الجنوب ، ولبينا النداء   أن حي على الكفاح  ، وهب شباب الجنوب كالأسود ورحلوا إلى عدن ورحلت معهم تسبقني أشواقي إليك وعدنا إلى حضن الوطن تركنا الغربة والأهل والولد ..وهجرنا الحياة ..وحملنا السلاح للدفاع عنك.. قاتلنا من أجلك وسقط الكثير منا على ثراك وطرقاتك منهم من بترت أطرافه ومنهم من رزق الشهادة!!
 حاول تتار العصر محو معالمك التاريخية يا عدن  بنيران دباباتهم وصواريخهم وصبوا جام غضبهم وحقدهم الدفين على سكانك وأسواقك وبناياتك وهندستك المعمارية التي تجسد روائع الحضارات ، أراد تجار الموت و القتل والمساومات والاغتصاب احتلالك وتشويه جمالك الأخاذ عبر السنين وإذلالك وتدميرك قصفوا الحجر والبشر والشجر وأرادوا أن يسلبوا منك الحياة ويدفنوا أحلامك يا سيدة المدن  ولكن هيهات فقد قاومناهم وأجهدناهم ومن أجلك رخصت الأرواح وسالت الدماء وتعفرت الوجوه بثراك الطاهر وأصبت إصابة قاتلة ومعي صديقي ورفيق دربي " عمر "الذي وسدته برجلي حتى فاضت روحه الطاهرة  ثم لحقت به  وكان  آخر مشهد أراه في حياتي هو جبل شمسان الأشم يقف منتصبا وسكنت روحي لرؤيته وتحجرت عيناي وهما تنظران إليه وأكرمني الله بالشهادة ومت على ثراك الطاهر وفاضت روحي وأيقنت أن نصرك آت عما قريب.
د. علوي عمر بن فريد