الحبيب الأسود يكتب:

ليبيون يتآمرون على الحل السياسي

لا أعتقد أن الدبلوماسي اللبناني المخضرم غسان سلامة ندم عن استقالته في الثاني من مارس 2020 من منصبه كمبعوث خاص للأمين العام وكرئيس لبعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا. فقد كان الحفاظ على صحته أولى من مجاملة الفرقاء الليبيين بخطاب غير مجد، وهو يعلم أن العالم ورّط نفسه منذ العام 2011 في أزمة تتعقد أكثر كلما قيل إنها تتجه نحو الحل، بسبب من وصفتهم نائبته الأميركية ستيفاني ويليامز التي حلت محله بالنيابة، بالديناصورات التي لا تريد أن تنقرض، والسياسيين الذين يرون إجراء انتخابات وطنية نهاية حتمية لامتيازاتهم، وقدرتهم على الوصول إلى خزائن الدولة ومواردها، وبالتالي وضع حد لنظام المحسوبية الذي طوروه بمهارة خلال السنوات الماضية.

عندما غادرت ستيفاني المنصب الأممي بعد انتهاء ملتقى الحوار السياسي المفخخ من انتخاب السلطة التنفيذية الجديدة المؤقتة الممثلة في المجلس الرئاسي ورئيس الحكومة، في الخامس من فبراير الماضي، تركت ملفات الأزمة لخلفها السلوفاكي يان كوبيتش الذي سيجد نفسه في مواجهة واقع لم يتعود عليه في مسيرته الدبلوماسية الأممية رغم عمله في ساحات ملتهبة كأفغانستان والعراق ولبنان. والسبب أن الحالة الليبية متفردة بمكر استثنائي لمحركي الأحداث ممن يتقاذفون المسؤولية، وكأن ما يبدونه من تناقضات سياسية وأيديولوجية ومن صراعات جهوية ومناطقية وقبلية، ليس أدوات مصطنعة لتأبيد الأزمة خدمة لمصالح المستفيدين منها، ومن يترجمون خطاب الدم والخراب إلى نفوذ وجاه وثروات.

الوضع في ليبيا متأزم؛ جيش في الشرق لا تعترف به سلطات الغرب، وميليشيات في الغرب مرفوضة في أغلب أنحاء ليبيا ولا تقبل بأن تتخلى عن السلاح

لم تدرك الأمم المتحدة، ومن ورائها المجتمع الدولي، أن الزعامات الطارئة على المشهد منذ العام 2011، مستعدة للتضحية بمصير الشعب ووحدة المجتمع وسيادة الدولة مقابل أن تمسك بمقاليد السلطة. فأن تحكم على أنقاض ليبيا خير لها من حياة خارج دائرة الحكم في بلد آمن مستقر. هذا الأمر ينطبق بالأساس على أمراء الحرب وقادة الميليشيات، وجماعة الإخوان التي تغلغلت في مراكز القرار المالي والاقتصادي. وعندما فشلت في انتخابات 2014، انقلبت على نتائجها من خلال حرب أهلية سيطرت بها على طرابلس والمنطقة الغربية لتزيد من هيمنة الجماعات المسلحة، ولتجد رعاة إقليميين ودوليين، أعادوا تدويرها عبر اتفاق الصخيرات المغربية في ديسمبر 2015، من خلال ما سمّي بالمجلس الأعلى للدولة الذي منحه الاتفاق صفة استشارية، سرعان ما تحولت بقدرة قادر إلى صفة تشريعية، قابلها مجلس نواب منتخب ولكن متهرئ ومعزول في شرق البلاد بعد أن قاطعه نواب المنطقة الغربية، وأصحاب الأجندات القريبة من الإسلام السياسي وذوو النزعات الجهوية المتبنية لخطاب المغالبة. ليجد الليبيون أنفسهم بين صالون خالد المشري الإخواني المندمج في محور إقليمي لا يزال يراهن على ليبيا الثرية والمتموقعة بين شرق وغرب الوطن العربي وفي شمال أفريقيا وعلى الضفة الجنوبية للمتوسط كمركز لمشروعه، ومجلس عقيلة صالح الزعيم القبلي الذي قادته الصدفة إلى الزعامة الجهوية فراودته فكرة الزعامة الوطنية واستمرأ اللعبة السياسية ولو بالانقلاب على ثوابته المعلنة، حيث وجد في تقاسم الأدوار مع المشري طريقا لتحقيق حلمه برئاسة المجلس الرئاسي، ودخل في لائحة مشتركة مع فتحي باشاغا وزير داخلية فايز السراج ومدعومة من الإخوان للمنافسة على السلطة التنفيذية في اجتماع جنيف، لكنه فشل بقرار لم تكن بعض القوى الدولية بمنأى عنه.

وحتى لا يقال إن عقيلة خرج خاوي الوفاض، استغل موقعه في المناورة بورقة منح الثقة للحكومة الجديدة، وبورقة المراكز القيادية بالمؤسسات السيادية، ثم ورقة الميزانية. وكل ذلك من أجل الاستمرار في منصبه، رغم أن الاتفاق السياسي المنبثق عن ملتقى الحوار يمنح رئاسة مجلس النواب في الفترة المتبقية إلى إقليم فزان، حتى أن ريتشارد نورلاند السفير الأميركي والذي أضافت له بلاده منصب مبعوث خاص لها في ليبيا، زاره مؤخرا في “القبة” ووعده بأن سيبقى رئيسا لمجلس النواب، شريطة أن يدفع نحو التعجيل بالتصديق على ميزانية الدولة للعام 2021، وبأن يساهم بجدية في تأمين تنظيم الانتخابات في موعدها.

في هذه الأثناء، كان لا بد من الحسم في القاعدة الدستورية التي ستعتمد في تنظيم الانتخابات، وأن يكون الأول من يوليو القادم موعدا نهائيا يتم فيه تسليم الملف للمفوضية العليا للانتخابات لتنطلق في تنفيذ روزنامتها وصولا إلى موعد الرابع والعشرين من ديسمبر. ولكن ماكينة المعرقلين كانت تعمل بكل قوتها، حيث رفض مجلسا النواب والدولة دعوة الدول الخمس، وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، عدم المساس من رئاسة المفوضية للسماح لها بمواصلة عملها، واعتبرا ذلك مساسا بسيادة الدولة، رغم أنهما يدركان أن جميع المجريات تدور بتخطيط وإشراف دوليين. وأدت الخلافات المصطنعة داخل اللجنة القانونية إلى اجتماع طارئ لملتقى الحوار شهد خلافات حادة، جعلت المبعوث الأممي يخاطب الأعضاء بأنه يكاد يكون أمام نقاشات مجلس النواب ومجلس الدولة، وكأنه يريد القول إن هناك مخططا لعرقلة خارطة الطريق يقف وراءه صالح والمشري والساعون إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه غير عابئين بالتحذيرات الأممية والدولية من تسليط عقوبات عليهم.

واجه ملتقى الحوار حالة الانقسام بين من يدعو إلى تأجيل الاستفتاء على مسودة الدستور المثيرة للجدل وتنظيم انتخابات عامة ومباشرة في موعدها، ومن ينادي إلى استباق الانتخابات بالاستفتاء على الدستور، وبأن يكون رئيس الدولة عن طريق البرلمان، وتتجه البعثة الأممية إلى عقد اجتماع جديد للملتقى على أن يكون قبل 20 يونيو، بما يسمح لمؤتمر “برلين 2” المقرر عقده في 23 يونيو، بإعلان توصياته النهائية، لكن المسألة ليست بهذه البساطة، فمجلس النواب ومجلس الدولة سيدفعان نحو المزيد من العراقيل بتكامل الأدوار بينهما، وكل منهما يحمّل المسؤولية للثاني، فيما هما متفقان على ضرب خارطة الطريق في مقتل.

في ذات الوقت، هناك خلافات أخرى لا تجد من يجرؤ على إنهائها بقرار حازم، وهي تلك المتعلقة بالقوات الأجنبية والمرتزقة، والتي نسمع حولها جعجعة دولية ولا نرى طحينا، تماما مثل قضية الميليشيات والجماعات المسلحة التي لا تزال تشكلّ أساس الفوضى السياسية باعتبارها أداة الطامحين إلى الإبقاء على نفوذهم، ويرى فيها رعاتها المحليون والإقليميون آليتهم الجاهزة للانقلاب على نتائج الانتخابات في حال لم توافق تطلعاتهم، كما حدث في صيف العام 2014، حتى اللجنة العسكرية المشتركة ورغم شحنة الأوكسجين التي مدت بها جسد ليبيا، إلا أنها سرعان ما عجزت عن تنفيذ بنود اتفاق جنيف المبرم في 23 أكتوبر الماضي. وتكفي الإشارة إلى الفشل في إقناع ميليشيات مصراتة بالسماح بفتح الطريق لندرك أن هناك من لا يزالون يراهنون على الحرب والانقسام وتشتيت الصفوف.

لم تدرك الأمم المتحدة، ومن ورائها المجتمع الدولي، أن الزعامات الطارئة على المشهد منذ العام 2011، مستعدة للتضحية بمصير الشعب ووحدة المجتمع وسيادة الدولة مقابل أن تمسك بمقاليد السلطة

الوضع في ليبيا متأزم؛ جيش في الشرق لا تعترف به سلطات الغرب، وميليشيات في الغرب مرفوضة في أغلب أنحاء ليبيا ولا تقبل بأن تتخلى عن السلاح، وقوات تركية ومرتزقة من كل الجنسيات يحافـظون على مواقعهم غير مبالين بالأصوات الداعية إلى مغادرتهم البلاد، وإخوان لا يريدون للحل السياسي أن يتحقق طالما أنه لا يضمن هيمنتهم على الدولة والمجتمع، وسلطات تتحدث عن الوحدة الوطنية دون أن تمارسها على أرض الواقع، ونزعات أيديولوجية وجهوية وقبلية تسيطر على المشهد العام، وخطاب كراهية لا يراد له أن يخفت، ودعوات للسلام لا تلقى آذانا صاغية، واستعدادات دائمة لحرب قد تندلع في أي وقت، وجهود دولية أساسها تصريحات بلا فحوى وقرارات وتوصيات بلا جدوى، وبرلمان ومجلس دولة محكومان برغبة القائمين عليهما في استمرار النفوذ والامتيازات، وشعب مغلوب على أمره، وبلد تتقاذفه الأطماع من كل جانب.

إن أخطر ما تواجهه ليبيا هو أن الفاعلين الظاهرين في الصورة ومن يتخفون وراءهم، لا يريدون لها أن تخرج من النفق، فهم مستفيدون من الأزمة أكثر مما قد يستفيدون من الحل، وحاجتهم للشقاق تفوق بكثير حاجتهم للاتفاق، ومصالحهم تكمن في دوام النزاع لا في تحقيق السلام، وهم وإن اختلفوا على كل شيء، فإنهم يجتمعون على قطع الطريق أمام أي مشروع قد يطيح بهم من مواقع القرار.