الحبيب الأسود يكتب:

ميزانية ليبيا 2021 وإنذار الدبيبة بإعلان الفشل

وعد رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبدالحميد الدبيبة بأنه سيخرج للشعب ويعلن فشله في حال عدم اعتماد مجلس النواب لميزانية 2021 التي لا تزال معلقة رغم أننا في منتصف العام، وقد تم تأجيل النظر فيها للمرة الرابعة، وترحيله إلى 29 يونيو، أي إلى ما بعد مؤتمر برلين 2 المقرر للثالث والعشرين من هذا الشهر، واستدعاء الحكومة إلى طبرق للإجابة عن أسئلة النواب بخصوص بعض البنود مثل التنمية والتسيير والطوارئ. لكن يبدو أن النقاش سيعود إلى نقطة الصفر حول موقف الحكومة من عدد من الملفات والقضايا المهمّة التي سبق وأن تطرّق إليها الدبيبة أمام جلسة منح الثقة في سرت في مارس الماضي، وذلك على ضوء المستجدات الأخيرة ولاسيما بعد زيارة لكبار المسؤولين الأتراك إلى طرابلس، والتي فتحت جراحا عميقة في جسد الوطنية الليبية.

أظهر الجانب التركي وهو يتعامل مع ليبيا كمستعمرة ورثها عن أجداده العثمانيين، ما يوحي بأنه غير مستعد لإجلاء قواته ومرتزقته عن البلاد في تحدّ صارخ لقرارات مجلس الأمن والتوافقات الدولية ورغبة الأغلبية الساحقة من الشعب الليبي، وصولا إلى قول وزير الدفاع إن الأتراك ليسوا طرفا أجنبيا في ليبيا، وأن الله خلق تركيا من أجل الليبيين، وليبيا من أجل الأتراك، وأن مشكلة ليبيا في خليفة حفتر وليست في القوات التركية، بما يثبت أن أنقرة تتصرف وتتحرك من خارج الاتفاقين العسكري والسياسي، ومن خارج المساعي الإقليمية والدولية لتوحيد المؤسسة العسكرية وإنهاء الانقسام وتكريس المصالحة الوطنية.

التصريحات التركية المعلنة في طرابلس هي التي يعتدّ بها، وليست الصادرة في مواجهة المسؤولين الغربيين، وذلك لأسباب عدة، أبرزها أن أنقرة تعوّدت على اعتماد سياسة الأمر الواقع، وعلى مبدأ قديم متجدّد أساسه أن من يسيطر على الأرض هو من يسيطر على القرار. وهي اليوم موجودة بقوة في الغرب الليبي، وتعتبر ذلك أمرا شرعيا، باعتباره ناتجا عن مذكرة تفاهم تم توقيعها في نوفمبر 2019 مع حكومة الوفاق التي كانت واحدة من خطايا المجتمع الدولي، وتم فرضها دون غطاء شعبي أو اجتماعي، ودون شرعية دستورية أو برلمانية، لتكون سببا في تعميق الأزمة، وفي شرعنة التدخل الخارجي.

ولعل نظرة خاطفة على الأوضاع الحالية وخلفياتها، كافية للكشف عن وجود تنسيق مباشر بين أطراف إقليمية ومحلية لتأبيد الأزمة. فالحليف المعلن لأنقرة هو مجلس الدولة الاستشاري الذي جيء به ضمن مخرجات مؤتمر الصخيرات في ديسمبر 2015، ضمن خطة إعادة تدوير الإسلام السياسي بعد هزيمته في انتخابات يونيو 2014، والتي انقلب على نتائجها بعملية “فجر ليبيا”، وهو ما اعترف به محمد صوان رئيس حزب العدالة والبناء. وهذا المجلس هو الذي يعمل اليوم على استفزاز مجلس النواب بالتراجع عن التوافقات الحاصلة في الرباط حول المناصب الرئيسية في المؤسسات السيادية، ويجد دعما من قوى غربية تحاول التخفي عن الأنظار، لكنها تحرّك من وراء الستار جميع أدواتها للإبقاء على محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير في منصبه. وبالتالي تعرقل حق المنطقة الشرقية في نيل هذا المنصب وإسناده إلى أحد أبنائها وفق ما تم الاتفاق عليه في “بوزنيقة” المغربية في يناير الماضي.

كما أن مجلس الدولة، ومن ورائه قوى الإسلام السياسي، يسعى للإبقاء على رئيسي هيئة المحاسبة خالد شكشك وهيئة مكافحة الفساد نعمان الشيخ المتهمين بالفساد ومحاباة الفاسدين في موقعيهما، مع إصرار على الإطاحة فقط برئيس المفوضية العليا المستقلة للانتخابات عماد السايح الذي يجد بالمقابل دعما داخليا وخارجيا عبّرت عنه بعثة الأمم المتحدة وبيان الدول الخمس وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا.

ومن هنا، يجد عدد من أعضاء مجلس النواب مبرّرات منطقية لرفض التصديق على الميزانية، حيث يرون أن العشرين مليار دولار التي يفترض صرفها قبل أن تتحول الحكومة إلى تصريف الأعمال في الرابع والعشرين من ديسمبر، موعد الانتخابات في حال تنظيمها، لا يمكن أن يأتمنوا عليها أجهزة يرفض رؤساؤها أو من يوفرون لهم الغطاء السياسي الالتزام بما تم التوافق عليه في لقاءات بوزنيقة، أو أن يعمل مجلس الدولة الخاضع لسيطرة الإخوان واللوبيات الجهوية والمالية على أن يكون البدلاء عنهم من تابعي المنظومة العقائدية التي يتبناها، ولو كانوا ظاهريا من المحسوبين على المنطقتين الشرقية أو الجنوبية، وهو ما يعني عرقلة التعيينات، وهذا ما أدركه البرلمان عندما ربط بند التصديق على الميزانية ببند المناصب السيادية، حتى لا يسلم مفاتيح الخزينة والرقابة عليها لمن يشكك في نزاهتهم ويرى فيهم جزءا من حالة الانقسام لا من حالة التوحيد.

إضافة إلى ذلك، فإن حكومة الوحدة الوطنية لا تزال في جلباب حكومة السراج في عدد من المسائل، حيث أنها لم تأت بنظرة جديدة في معالجة مخلّفات الماضي، وإلى اليوم لا يزال الاتصال بين رئيسها الذي هو في ذات الوقت وزير للدفاع، وبين قائد الجيش خليفة حفتر، يتم عبر الوسطاء الأجانب، وهو ما يعني أن السيد الدبيبة لا يريد إزعاج داعميه وحلفائه ولاسيما في طرابلس ومصراتة، ومن بينهم أمراء الحرب وقادة الميليشيات، كما أنه لا يستطيع الضغط بقوة لحل النقاط الخلافية، ومن أبرزها نقطة فتح الطريق الساحلية التي تعتبر لوحدها عنوانا لحالة الفشل القائم في تنفيذ الاتفاق العسكري المبرم منذ ثمانية أشهر، وتثبت أن الفاعلين الحقيقيين سواء من فوق الطاولة أو من تحتها غير جادين في طي صفحة الصراع الدموي، وغير جاهزين للقبول بالحل السياسي، بل إنهم يراهنون على إعادة خلط الأوراق وحتى على الدفع إلى الحرب من جديد، فالنزعة القائمة لديهم هي أن يحكموا كل ليبيا ويتصرفوا في مقدراتها وجغرافيتها بمنطق القوة التي لا تهزم، وليس بمنطق الشراكة السياسية تحت مظلة الدولة ذات السيادة القادرة على استيعاب كل الاختلافات بين أبنائها في إطار الوحدة الوطنية.

إن تأجيل الحسم في اعتماد الميزانية إلى ما بعد مؤتمر برلين 2 يعني أن كل الضغوط الدولية ذهبت هباء، وأن لكل طرف مبرّراته التي يواجه بها المتدخلين الأجانب، وقد لا يتم اعتماد الميزانية أصلا بما سيدفع بالحكومة إلى التصرف دون غطاء تشريعي كما كان الحل لحكومة السراج. وقد يضطر المهندس الدبيبة إلى طلب اعتماد من ملتقى الحوار السياسي، ولكن ذلك غير مضمون نتيجة الخلافات داخله، وإذا نال الاعتماد منه، فإن البرلمان قد يشكّل حكومة موازية كحكومة عبدالله الثني بما يعني العودة إلى حالة الانقسام. يبقى أمام السيد الدبيبة حل واحد وهو الخروج إلى الشعب لإعلان فشله، وهذا ما وعد به، ليس إنذارا للداخل، ولكن طلبا لنجدة دولية يريد لها أن تأتي من برلين.